موجودان اليوم في المكتبة العمومية في مدرسة الملك الظاهر بدمشق وقاس عليهما ما ألفه علماء تلك القرون الأفاضل وما قبلها في علوم الشريعة والأدب واللغة والتاريخ والتراجم والفلك والطب والرياضيات كالهندسة والحساب وغير ذلك من العلوم علم مقدار ما لهذه المدارس ومؤسسيها من الفضل على الأمة وما للنابغين فيها من الأثر العظيم في الوجود بما سهروه من الليالي الطوال في الحرير والتحبير وما عانوه من النصب في وضع كتب العلم لإفادة الناس حتى ملأوا بها المكاتب ونشروا العلم: وما قولكم في أن عالماً واحداً من علماء الطب وهو موفق الدين بن المطران المتوفى سنة سبع وثمانين وخمسمائة ترك في مكتبته عشرة آلاف مجلد في الطب والعلوم الحكمية كما ذكر ابن أبي أصيبعة في ترجمة الموما إليه.
وملا يظنن بعضكم أن هذه المدارس كانت مدارس دينية فقط وأن أكثر علمائها وطلبتها من طلبة العلوم الشرعية وآلاتها كلا فإن فيها مدارس لغير العلوم الشرعية كالطب مثلاً ومن هذه المدارس المدرسة الدخوازية والدنيسرية واللبودية كما سترون ذلك في ما يأتي من الكلام إن شاء الله.
ولقد أخبرنا التاريخ أن معاهد العلم كانت مشاعة بين طلابه من كل فن وأن الطبيب أو الفلكي مثلاً كان يلقي دروسه في أي مدرسة كانت من مدارس العلم له فيها وظيفة بل في الجوامع والمساجد أيضاً لأنها كانت قبل أن توجد المدارس على شكلها المعهود أي قبل القرن الرابع أشبه بمدارس العلم بل هي المدارس بعينها وما زالت كذلك معاهداً للعلم والعبادة معاً إلى اليوم كما تعلمون.
وأذكر لكم مثالاً واحداً على أن المدارس كانت مشاعة لطلاب كل علم ما نقله ابن أبي أصيبعة في ترجمة رفيع الدين الجيلي قال:
وكان مقيماً في دمشق وهو فقيه في المدرسة العذراوية داخل باب النصر وله مجلس للمشتغلين عليه في أنواع العلوم والطب وقرأت عليه شيئاً من العلوم الحكمية.
واعلموا أيها السادة أن كثيراً من علماء الشريعة مثل الجيلي جمعوا بين العلوم الشرعية والعقلية والطب والفلك والرياضيات وكلهم من خريجي هذه المدارس بالضرورة وممن جاء ذكرهم من هؤلاء في هذا التاريخ واذكره مثالاً للباقين أحمد بن الحسين الدمشقي وإليكم ما