قال الجاحظ: وهذا غلط وليس من هذا الباب بل الذي يقع ههنا قول أبي المطراب عبيد بن أيوب:
فلله در الغول أي رفيقة ... لصاحب قفر خائف متنفر
أرنت بلحن بعد لحن وأوقدت ... حواليَّ نيران تبوخ وتزهر
فلسفة ما تزعمه الأعراب من عزيف الجنان وتغول الغيلان
قال الجاحظ رحمه الله: كان أبو إسحق يقول في الذي تذكر الأعراب من عزيف الجنان وتغول الغيلان أصل هذا المر وابتداؤه أن القوم لما نزلوا ببلاد الوحش عملت فيهم الوحشة، ومن انفرد وطال مقامه في البلاد والخلاء والبعد من الأنس استوحش ولاسيما مع قلة الاشتغال والمذاكرين والوحدة، لا تقطع أيامهم إلا بالمنى أو بالتفكير، والفكر ربما كان من أسباب الوسوسة وقد ابتلي بذلك غير حاسب كابي ياسر ومثنى ولد الفنافر (قال) وخبرني الأعمش أنه فكر في مسألة فأنكر أهله عقله حتى حموه وداووه، وقد عرض ذلك لكثير من الهند وإذا استوحش الإنسان مثل له الشيء الصغير في صورة الكبير وارتاب وتفرق ذهنه وانتقضت أخلاطه فيرى ما لا يرى ويسمع ما لا يسمع ويتوهم عَلَى الشيء الصغير الحقير أنه عظيم جليل ثم جعلوا ما تصور لهم من ذلك شعراً يناشدوه وأحاديث يتوارثونها فازدادوا بذلك إيماناً ونشأ عليه الناشئ وربي فيه الطفل فصار أحدهم حين يتوسط الفيافي وتشتمل عليه الغيطان في الليالي الحنادس، فعند أو وحشة أو فزعة وعند صياح بوم ومجاوبة صدا وقد رأى كل باطل وتوهم كل زور وربما كان في الجنس واصل الطبيعة تفاحاً كاذباً وصاحب تشنيع وتهويل فيقول في ذلك من الشعر عَلَى حسب هذه الصفة فعند ذلك يقول رأيت الغيلان وكلمت السعلاة ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول قتلتها ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول رافقتها ثم يتجاوز ذلك إلى أن يقول تزوجتها قال عبيد بن أيوب:
فلله در الغول أي رفيقة ... لصاحب قفر خائف متنفر
وقال:
أهذا رفيق الغول والذئب والذي ... يهيم بربات الحجال الهواكل
وقال آخر:
أخو قفرات حالف الجن وانتفى ... من النس حتى قد تقضت وسائله