هذه الدروس قليلة النفع ولذا لا يسهل كثيراً الفرق بين تقوية العقل على طريقة جيدة أو رديئة فلاتقاء السفسطات والأمور المخالفة للمنطق نحتاج إلى دقة وحذاقة أكثر من احتياجنا إلى ذهن يعي الهندسة. وكل منا يعرف أن المرءَ قد يكون مهندساً بارعاً ويكون حكمه بعيداً عن الصواب في جميع المواد الأخرى. وهل معنى هذا أننا ننسب لدرس العلوم المجردة قلة غناء في التربية عَلَى حين نتوقع نحن منها نفعاً عقلياً كبيراً يخالف ما يراه بعضهم كل المخالفة.
فكل تمرين للطفل نافع لما يتطلب فيه الجهد والتعمل. فأي مقاومة خاصة يقضي على دارس العلوم المجردة أن يتغلب عليها وأي حاسة تتمرن بها؟ فإن هذه العلوم متى فهمها المتعلم وأدركها يقوم له البرهان عليها والصعوبة الأولى في الاهتداء إليها وفهمها وللنجاح فيها يجب أن يكون صاحبها أهلاً لان يجعل لأفكاره المجردة كل التجربة قريبة من العقل ما أمكن ببيان الصلات بينها بمعنى أنه يتوصل إلى أن يلاحظ عليها ملاحظة حقيقية. يجب إدراك ما بين المسائل الكثيرة من الارتباط في النظريات التي قد تحدث ولا تتسلسل وفي مثل هذه المآزق يستدل على فلسفة العقل وقوتها. وأنت ترى أن الصعوبة في بلاغ الذهن إلى تلك المجردات لتحقيق هذه الأعمال العقلية ومن هنا نشأ الجهاد والتعب وفي هذا التمرين الحقيقي فائدة العلوم المجردة هو تمرين العقل على المجردات.
إن التعلم عَلَى سهولة مأتاه في المجردات والترقي بالتمرين المتصل إلى مجردات أعلى منها هو أرقى أنواع التهذيب العقلي وبدون أفكار مجردة لا تتجاوز معدل الذكاء الحيواني ولا نفكر إلا بصورة خاصة كنحو ما يلزمنا في حياتنا اليومية. في حين إن جميع الأعمال العقلية ذات الشأن والتشابيه المركبة والعموميات والتصورات الصعبة كلها بنت المجردات وربيبة النظر فمعنى إدراك الأفكار المجردة الاستعاضة عن الفكر الحقيقي المرتقي في تصوير الأشياء بفكر هو في حيز القوة يستعمل كما لو كان راقياً. فالعقل الممرن الصريح المعتاد على التفكر في الأمور المجردة يشعر من نفسه بهذه القوة ويقودها ويكتفي برسم الأعمال العقلية بدون أن يقوم بها بالفعل فينشأ من ذلك تخفيف عن الفكر يشبه ما حدث من نوعه عندما استعاض تصورنا عن الأشياء الحقيقية بصورة بسيطة من هذه الأمور. وبذلك تنمو قوة إدراكنا ونظرنا في العواقب نمواً مدهشاً ونعمل أعمالاً مختصرة بدون جهد أعمالاً