ما ندري متى نشأت في العرب الإجازة على الشعر في المديح. والغالب أن هذه القاعدة قديمة في أمرائهم رؤسائهم قبل الإسلام ولما جاء كعب بن زهير إلى الرسول عليه السلام وأنشد بين يديه قصيدته المشهورة خلع عليه خلعة سنية. حتى إذا كان عهد الحضارة أخذ بعض الكبراء يغالون في عطاء الشعراء لما وقر في نفوسهم من تأثير أقوالهم في الناس. والشعراء يقولون كلما زدتمونا عطاءً زدناكم مديحاً وثناءً. حتى اصبح الشعراء على عهد بعض الخلفاء والملوك والأمراء أشيبه بجماعة من ولاة الأمر وقوام الدولة تطلق لهم الجرايات والمشاهرات ويأخذون الجوائز والأعطيات ويرجع إليهم في المهمات ويثيرون النفوس في الملمات. وكم من ملك لولا أماديح شعرائه لكان خامل الذكر لا نسمع به إلا في الندر وكم من شاعر شرَّف ممدوحه بما صاغ له من عقود الثناء.
إلا أن الشعراء في هذه الأمة قد ابتذلوا في العصور المتأخرة شعرهم حتى أصبحت تستنكف من سماعه. والأمة إذا ضعفت سياستها يضعف فيها كل شيء على نسبته فكيف يتأتى للشعراء أن يضعوا أماديحهم في محلها ومحيطهم كما رأيت من الانحطاط نعم ضعفت ملكة الشعر وقلت قيمته بقلة أقدار الأمراء وشعرائهم حتى أصبح الشعراء والحال لم يزل لها بقية في بعض البلاد أشبه بشحاذين يستوكفون الأكف بما ينظمون ويضعون من المعاني والألفاظ ما يعد غلواً لو أطلق على أعظم رجل في الأرض فما الحال بممدوحيهم ولو أنصفوهم لهجوهم بدل أن يمدحوهم. نعم هزلت حالة الشعر واشمأزت نفوس المتأدبين الحقيقيين من الأماديح فأصبحوا لا يجوزون المديح حتى على من يستحقونه وعدوه من سخف القول وهجره.
ولقد رأينا الشعراء في القرن الرابع والخامس والسادس مثلاً يصونون الشعر عن الابتذال فكانت له قيمة عند الناس ولاسيما عند من يرجون نوالهم فكنت ترى أبا الطيب المتنبي لا يجوّز أن يمدح غير أرباب الدولة والزعامة وقل أن قال شيئاً يذكر فيمن دونهم مع أنه طالما أريد على ذلك، وأن رجلاً استنكف بداءة بدءٍ أن يمدح الصاحب بن عباد وهو في الفضل ما هو لجدير بأن يوقر شعره والقول يشرف بشرف قائله والمقول فيه. ولو ابتذل المتنبي شعره في عصره ومدح به كل من يعطيه لما كان له هذا الرونق والطلاوة ولما أجزل الأمراء له العطاء على ما رأينا في سيرته. فقد رأينا أبا شجاع فاتكاً يبعث إليه بألف