ولم يقنع الإنسان بأن يكون أداة حيوانية في تعاطي الأعمال بل بحث على العكس في إيجاد أدوات وآلات تقوم مقام الأذرع التي لم تكف للقيام بما هدته إليه فكرته الباحثة. فانقسمت العناصر القائمة بالجهاد الإنساني وتنوعت بتعدد التنظيمات الطبيعية والعقلية المنبعثة كم كل امرئ على حدته جرياً على ناموس تقسيم الأعمال. وما فتئت أنواع المعارف الإنسانية المنوعة تكمل وتكبر والنجاح مؤاتيها إلى أن تبلغ مكانة سامية لم تعرف في القرون الماضية. فالعمل وحب العمل هما من العلامات التي ينعت بها عصرنا هذا ولا أعني بالعمل العمل البهيمي المعهود في الأزمان الماضية بل أريد العمل المنتج المتأتي عن ذكاء وفهم. ولقد كانت الحاجة ماسة قديماً للأذرع وقوة الحيوانات لطحن القمح وإدارة المطاحن أما اليوم فقد توصل الفكر البشري إلى استبدال البخار والكهربائية بتلك العوامل بمعنى الفكر في قرننا الذي يحق له أن يدعى قرن الماديات هو العمل والعمل هو الفكر. فماديات اليوم تختلف عن ماديات أمس من حيث أن هذه كانت تعد الفكر مادياً وتلك تحسن المادة بدرس خصائصها الطبيعية والكيماوية للانتفاع بها في الأرباح والمتاجرات الصناعية.
وبفضل ارتقاء الأشغال العقلية رقَّ الشعور وسما الإحساس فصارت للمرء قيمة وللعالم مقام وانتهت الحال بتحرير الرقيق والإماء. وبارتقاء العلوم واستخدامها في الحرف والصناعات بلغ الإنسان بإيجاد موارد الإنبات وتوفيرها والاستكثار من الثروة العامة مبالغها. وراح العامل وعدته المعارف العلمية في صناعته يعنى بالتعلم والتفكر والبحث ويهتم بارتقاء الصناعات والعلوم على حين كانت أداة ساذجة تابعة للآلات الصماء. وليس كل ما تم في هذا القرن من صالح الأعمال إلا نتيجة من نتائج العلم العملي وأثر من آثاره. وحقاً أن ارتقاء العلوم الطبيعية والكيماوية في هذه الخمسين سنة الأخيرة قد أثرت تأثيراً بيناً في الصناعات وفي الطبقة العاملة من الناس بل في التجارة وعملائها بحيث امتنع على المرء أن يعيش عيشاً ساكناً خالياً من الهموم وإشغال الأفكار على نسبة نجاح مشروعاته وأعماله. وإذا كانت قيمة الغلات الأرضية والصناعية عرضة أبداً للتقلبات على اختلاف أنواعها لتقلب كيفيات الاستعمال وتبدله صار القائمون على الصناعات في قلق أبداً مضطرين إلى إيجاد طرق جديدة أخرى لنيل الأرباح التي تطمح إليها نفوسهم.
إلا وأن اكتشاف البخار والكهربائية واستخدامها في التجارة والصناعة بتقريب الأبعاد