و {الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ} هم الذين كان حالهم عجبا وعبرة، ولعلك تلاحظين- يا أخت- أن الآية الكريمة عبرت باسم الموصول ولم تسم جماعه بعينها، وقالت: {مِنْ دِيَارِهِمْ} ولم تسم مكاناً معيناً كانت فيه هذه الديار. لقد ترك ذلك كله لأنه لا عبرة فيه، وإنما العبرة فيما جاء بعد في صلة الموصول وما عطف على هذه الصلة.
لاحظي كلمة {مِنْ دِيَارِهِمْ} والدار من أعز ما يملكه إنسان الحاضرة، وخروجهم منها يدل على عظم ما كانوا فيه من فزع، وهول ما كانوا فيه من خوف.
والتعبير ب {أُلُوف} وهي من جموع الكثرة، وترك التعبير بآلاف وهي من جموع القلة، يدل على أنهم كانوا كثيرين جدا لا يعلم عدتهم إلا الله.
ثم جاءت {حَذَرَ الْمَوْتِ} - وهي مفعول لأجله- تبين سبب الخروج على ما هم عليه من كثرة كاثرة.
لقد أخرجهم {حَذَرَ الْمَوْتِ} من ديارهم: من مسارح الطفولة وملاعب الصبا، من مجالس السهر والسمر، ومن مهاجع الأمن والسكينة. أخرجهم منها كالجراد المنتشر يهيمون على وجوههم، يسوقهم الخوف ويحدوهم الفزع، وقد غفلوا أو جهلوا أن الموت والحياة بيد الله، وأن الحذر لا يدفع القدر، فقال تعالى ليبين ذلك كله: {مُوتُوا} ولعلك- يا أخت- تحسين ما في هذا الأمر {مُوتُوا} من قوة وجبروت وكبرياء، فالله هو القوي الجبار المتكبر، ولعلك تلاحظين أن الآية الكريمة لم تذكر عاقبة هذا الأمر وهي أنهم قد ماتوا، لأن هذا شيء مفهوم من قوله تعالى: {مُوتُوا} فأمر الله تعالى محقق النفاذ لا يتخلف {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} .
وقوله تعالى: {ثُمَّ أَحْيَاهُم} يدل بـ {ثُمَّ} على أن الإحياء لم يجيء سريعاً بعد الإماتة وإنما جاء على فترة من الموت.