وهذا الرأي غير ظاهر: إذ ذهب بعض أهل العلم إلى وجوب بعض هذه الخصال، فقد نقل الحافظ ابن حجر عن ابن العربي قوله في شرح الموطأ: عندي أن الخصال الخمس المذكورة في هذا الحديث - يقصد حديث أي هريرة: خمس من الفطرة - كلها واجبة فإن المرء لو تركها لم تبق صورته على صورة الآدميين، فكيف من جملة المسلمين. إلا أن الحافظ لم يرتض هذا القول من ابن العربي؛ فقد تعقبه بقول أبي شامة: بأن الأشياء التي مقصودها مطلوب لتحسين الخلق وهي النظافة؛ لا تحتاج إلى ورود أمر إيجاب للشارع فيها اكتفاء بدواعي الأنفس، فمجرد الندب إليها كاف [75] .
ويقوي وجهة ابن العربي ما قاله ابن دقيق العيد- نقلاً عن بعض العلماء- من أن الأصل فيما أضيف إلى الشيء أنه منه؛ أن يكون من أركانه لا من زوائده حتى يقوم دليل على خلافه. وقد ورد الأمر باتباع إبراهيم عليه السلام، وقد ثبت أن هذه الخصال، أمر بها إبراهيم عليه السلام، وكل شيء أمر الله باتباعه فهو على الوجوب لمن أمر به.
وقد يناقش هذا، بأن وجوب الإتباع لا يقتضي وجوب كل متبوع فيه. بل يتم الإتباع بالإمتثال، فإن كان واجباً على المتبوع كان كذلك في حق التابع وعلى ذلك فيتوقف ثبوت هذه الخصال على الأمة على ثبوت كونها كانت واجبة على الخليل عليه السلام [76] .
وسيأتي لهذا الموضوع مزيد من بيان في شرحنا للأحكام التي تستفاد من هذه الخصال - إن شاء الله.
ويرى فريق ثالث؛ أن المراد بالفطرة هنا: أصل الدين الذي اتفقت عليه كل الشرائع كقوله تعالى: {أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ.. الآية} [77] وبذلك جزم أبو نعيم في المستخرج. وقال النووي في شرح المهذب جزم الماوردي والشيخ أبو إسحاق؛ بأن المراد بالفطرة في هذا الحديث، الدين [78] وهذا الرأي من شأنه أن يقوي وجهة ابن العربي في القول بوجوب الخصال الخمس الواردة في حديث أبي هريرة.