وهم وإن كانوا بالتأكيد أفضل حالا من سابقيهم لما وقوا شح أنفسهم. وغيرهم اكتفى بكلمات ميتة حبيسة الفم، تحمل الشر أكثر مما تحمل الشكر، لما قالوها في سرائهم وتركوها في ضرائهم، والآن أدعو النوعين لنفهم معا أمر الشكر من أصفى ينابيعه، من كلام المشكور نفسه سبحانه، فلقد أكرمني بحب كتابه منذ طلبت العلم، وأعطيت منه قدرا والحمد له، كان المداد لما أقول وأكتب فقد قدم لنا سبحانه الشكر على أنه الإيمان به، وأن غير الشاكر هو الكافر به، كفر بلفظه ومعناه، المتصل بإنكار الله، فلم يجعل سبحانه في القرآن شيئا ضد الشكر إلا صريح الكفر، وإليكم من روضة القرآن هذه القطوف من الأدلة {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي تؤمنون، حيث لم يسبق لهم إيمان ليكون الشكر فرعا له، بل إن كفرهم من نوع هو أجرأ ما يكون من مخلوق على خالقه، لما اشترطوا لإيمانهم رؤية ربهم جهرة، وهم يعلمون استحالة ذلك في الدنيا من كتبهم، حيث ادخر رؤيته في الآخرة لتكون قمة العز لمن آمن به بالغيب، فرد على مطلبهم بأن أراهم نفسه في بأسه، لما صعق جموعهم في لحظة، وأراهم نفسه في قدرته، لما أعادهم إلى الدنيا من جديد، ثم قال لهم: {لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} أي لعلكم بما فعلت بكم تؤمنون بي، وقوله تعالى مخاطبا عباده {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ} فهذه الآية القصيرة لم تضم إلا أربع كلمات ما أعجبها، اذكروني بالإيمان والطاعة، أذكركم بالأجر والمثوبة، واذكروني بهذا الوصف، فإن لم تفعلوه فأنتم تكفرون، وقوله تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ} فالكلمتان، شكرتم وآمنتم، معناهما ينتهي عند الثانية وهو الإيمان، إن أدركتم الشكر بالفكر،