هذه هي الأوامر الأربعة التي فصلَّها سبحانه هذا التفصيل البين، ولو نظرنا فيها نظرة تمعن لوجدنا أن هذه الأوامر تتدرج نحو العموم المطلق.
فالصلاة التي أمر بها أولا تدخل في الأمر الثاني وهو الأمر بالعبادة، فالعبادة تشمل الصلاة وغيرها من أوجه العبادة، ثم تندرج العبادة في الأمر الثالث وهو الأمر بفعل الخير، فالعبادة بجميع مظاهرها نوع من أنواع الخير الذي أمرنا بفعله، وحمل النفس على فعل الخير نوع من أنواع الجهاد العام، ففعل الخير مندرج كذلك في الأمر الرابع وهو الأمر بالجهاد في الله حق جهاده.
ثم بين سبحانه السبب الذي من أجله وجب على الأمة المحمدية أن تتقبل هذه الأوامر التكليفية بقلوب راضية مطمئنة، فهناك أمور ثلاثة كل منها كاف وحده ليكون سببا في وجوب هذا التقبل ففيه رضا للنفس واطمئنان للقلب.
أولها قوله سبحانه: {هُوَ اجْتَبَاكُم} أي اختاركم واصطفاكم وجعلكم خير أمة أخرجت للناس، وأنت إذا اصطفيت لك صديقا تفاني في حبك وتنفيذ أمرك وتحمل المشقة في سبيل مرضاتك، فما بالك بمن اختارهم ربُّ العزة واجتباهم وفضلهم على العالمين وجعلهم أمة وسطا ليكونوا شهداء على الناس. أفلا يجدر بهم أن يكونوا عند هذا التقدير فيتقبلوا التكاليف راضين؟ ثم أنه مع ذلك لم يكلفكم شططا. ولو يحملكم ما لا تطيقون {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} والحرج الضيق والمشقة، وقد نفاهما سبحانه، وجعل لكل عسرٍ يسرا، ولكل فريضة رخصة وذكر النبي عليه الصلاة والسلام أن الله يحب أن تؤتي رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه، ولم يخيَّر عليه الصلاة السلام بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما. فإن كان إثما كان أبعد الناس عنه.