تمرّ الأيام سراعا والمسلمون يكثرون، ويأخذون أنفسهم بمنهاج دينهم القرآني، ويصوغون حياتهم بالأسلوب الرباني, فيجدون متعتهم الفنية في قرآن يتلى، وصلاة تقام لتؤدى، وذكر خاشع للذي خلق فسوى, والذي قدر فهدى, حتى أذن الله بعد ثلاثة عشر عاما مع أهل مكة وجيرانهم أن تنتقل الدعوة إلى طيبة هنا في مدينة الرسول الأعظم حيث التربة الصالحة، فقامت على ربوعها دولة الإسلام الأولى تنشد الخير والعدل والسلام، وتعمل من أجل سعادة البشرية في الحال والمآل، ولكن أعداء الإنسانية من المشركين الجاحدين واليهود الحاقدين جاهروها بالعداء، ونازلوها القتال، فأذن للرسول وصحبة من المهاجرين والأنصار بالقتال ردعا لعدوان، وتأمينا لدعوة, وانتصاراً لحق، ودفعا لظلم!!، فلا تكاد تمضي فترة إلاّ وتقع غزوة أو توجه سرية على مدار عشر سنوات في المدة التي عاشها الرسول صلى الله عليه وسلم في المدينة، كل هذا والنظام الإسلامي الشامل يستقر في هذه الدولة، وعملية البناء تسير سيراها العجيب، بناء النفوس والضمائر قبل تشييد البيوت والعمائر، فأتيح للجو الشعري والفني ما يحقق صفاءه ونقاءه, ووفْرته ونماءه، وانبرى هؤلاء الشعراء المسلمون: حسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة، يخوضون معركة الشعر بالإسلام في مواجهة أعدائه، وقُدِّر لدولة الشعر الإسلامي أن تقوم هي الأخرى، دعامة لدولة الإسلام الأولى من بين الدعائم التي ارتكزت عليها، وظهر الشعر الإسلامي خالصا، لتمجيد المعاني الإنسانية النبيلة، ودعم الأخلاق الإسلامية القويمة [13] ، لكن سحر القرآن وتأثيره في النفوس ما زال يسري حتى مع هؤلاء الشعراء، فلم تخلص الحياة للشعر كما كان الحال في الجاهلية، بل شُغِل الناس برواية حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وخطبه، ولذلك اتجهت الحركة النقدية في ظلال الإسلام إلى مرحلة أخرى من النمو والتطور أقرب إلى العقل منها إلى العاطفة، فكيف تمت هذه المرحلة؟.