وفات هؤلاء أن جذوة الشعر لم تنطفئ، ولكن في إطار منهج هذه الدعوة الإسلامية الجديدة، فتلاشت أغراض كالهجاء المقذع، والغزل الرخيص الفاحش, ومجالس الشراب والهوى، وغيرها أغراض وجدت واتسعت كشعر الفتوحات، والتعريف بهذا الدين، والدعوة إلى التمسك بمبادئه في توحيد الله تعالى، وعبادته الخالصة، والالتزام بالأخلاق الإسلامية الرفيعة، والمثل الإنسانية الكريمة، مما جعل شعر عصر النبوة يباين شعر الجاهلية، في كثير من اتجاهاته وتصويراته فلا محل للقياس، فضلا عن أن النثر الفني الذي كان قليلا في الجاهلية قد ازدهر كثيرا في الإسلام, ممثلا في البلاغة النبوية، والخطابة الإسلامية, وبهذا اتسعت دائرة العمل الأدبي، شعرا ونثراً في عصر النبوة.

وكلام الأصمعي هذا إنما يمثل الأساس الراسخ المتين لما تعورف عليه اليوم بين النقاد المعاصرين بـ (قضية الالتزام) , هذه القضية التي أصبحت مثاراً للخلاف الشديد بين النقاد في زماننا، حتى ليمكن القول: إنها صارت قضية النقد المعاصر، ولا يستطيع باحث كائن مَنْ كان أن يسوي بين شعر لا يصدر عن نزوة طارئة، أو جمحة عارمة، وبين شعر لا يصدر عن هوى ولا ينصرف عن خير، ومن ثَمَّ فإنّ المنهج الإسلامي الذي استقرت عليه أرواح الشعراء في الصدر الأول، فاتجهوا إلى الواقع يصورونه ويتأملونه رغبة في تعميق الإيمان بالله، والثقة فيه عدلا وفضلا، قد اتسع هذا المنهج لمقتضيات هذه الحياة التي ترامت أطرافها، وتباعدت أرجاؤها، حتى كان ما رأيناه من نكسة الشعر على يد أصحاب النقائص: جرير، والفرزدق، والأخطل من شعراء بني أمية، فإن هذا الثلاثي هو الذي يتحمل وحده مسؤولية هذه الانتكاسة بعودة الهجاء على نحو جاهلي بل أشد، وغير ذلك من فنون القول وأغراضه التي لم تلتزم منهجا أخلاقيا، أو مبدأ إنسانيا، بالفحول الأمويين والفحول الجاهليين- في زعم بعض الدارسين اليوم.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015