وقد كان ابن مقلة مع عظم منزلته ومكانته, وصولا ودودا, كثير الأصدقاء والأصحاب, وكانوا يملئون أبوابه ورحابه, ولكنهم ما كادوا يعلمون بمحنته, حتى تفرقوا عنه, ولم يظفر بفرد واحد يواسيه, ويخفّف عنه بعض مآسيه. ومع ذلك لم تمكث هذه المحنة غير بعض يوم, فقد انكشفت المكيدة, وظهر الدسُّ, ووضحت براءة ابن مقلة, فأرسل إليه الخليفة, وخلع عليه، وأخذ يسيرضيه ثم أرجعه إلى ما كان عليه من المناصب والتكريم.
وهنا أقبلت وفود المنافقين, ومواكب المرائين والمداهنين, وتكاثر عليه أصحاب المكائد والموائد, أقبلوا من جديد إلى داره ومزاره, يدعوهم في سخرية إلى مزيد من النفاق والارتزاق فيقول:
فحيث كان الزمانُ كانوا
تحالف الناسُ والزمانُ
فانكشف الناسُ لي وبانوا
عادانيَ الدهرُ نصفَ يومٍ
عودوا فقد عاد لي الزمان
يا أيُّها المعرضون عنّا
أرأيت - يا صديقي - كيف يلقى النابهون والمتفوقون؟ وكيف يتحمّلون كثيرا من المتاعب والمصاعب؟ ولكنها ضريبة المجد, وكم للمجد من ضرائب.
أظنك بعد هذا تريد إليّ أن أمضي بك مع قطرات الضوء إلى موقف آخر لشخصية أخرى. نعم - يا صديقي - سنلتقي بشخصية أخرى من أعز أصدقائي إنه وزير شاعر فارس عرف القلم فامتشقه وآخاه فأهدى إليه ألقه. أتريد أن تعرف حديثه عني, واعتزازه بي إنه صورني بأجمل ما يصورني شاعر يعيش قصة القلم بمعناها ومرماها, ويؤكد أن السيف ظل للقلم, وأن صليله صدى لصريره حينما يتحرك على الورق, وتسعى إليه الدنيا لتسبق. وأنه إذا حمل القلم فحسبه ذلك عزة ومتعة. أرأيت إلى أي حدّ بلغت منزلتي؟ إنه ليهزّني الطرب وأنا أنقل شعر ابن سناء الملك حين يتحدث عن القلم, يعني يتحدث عني في ذلك الشعر الذي ما زال يهز أذن الزمن, ويحرّك النخوة في حملة الأفلام؛ ذلك حيث يقول:
فما ضرَّني ألا أهزَّ المهَّندا
ولي قلمٌ في أنْمُلي إن هززته