ولنضرب لذلك مثلا بفن الرسم.. إنه دون ريب تعبير فطري عن هوى أصيل في أعماق النفس البشرية، ينزع بها إلى محاكاة الواقع خارج الذات، أو يحفزها إلى تصوير مشاعرها الذاتية من الداخل، وليس هو خاصا بنفس دون أخرى، ولكنه يتفاوت من حيث القوة بتفاوت الأسباب، حتى يكون في واحد أشد بروزا أو خفاء منه في الآخر، وقد عالج الإسلام هذه الموهبة بتوجيهها في الطريق الأسلم، فنهى المسلم عن تصوير ذات الروح، في حين فتح له أبواب الطبيعة على مصراعيها.. يحاكي أشكالها، أو يبدع ما شاء له الخيال من الأشكال الجديدة، حتى امتاز في العالم بفن طريف لا يزال موضع الدهشة والمتعة عند كل ذي حس جمالي.. وبذلك صانه من السقوط في أوحال عبادة الجسد، التي انصرف إليها الفن الوثني وورثته في الغرب والشرق..
وعلى هذه القاعدة الحكيمة عالج الإسلام موضوع الغناء، فلم يقهر غريزة المسلم على تركه نهائيا، ولم يدعه لأهوائه تنطلق به في طريق الشعوب، التي اتخذت منه علما يدرس، وفنا يمارس، ثم صار بها الأمر إلى أن جعلت منه عبادة أقامت لها الآلهة، ونصّبت لها التماثيل.. وأقبل عليها الجميع فلا يحسن سواها، وهاو لا يستطيع عنها فكاكا، فهو ينظر إلى هؤلاء المحترفين للغناء كما ينظر العبد إلى ربه..
الإسلام والغناء:
أجل.. لقد سما الإسلام بالمسلم عن هذا الشذوذ النفسي، فوفر له المجالات التي تشبع غريزته من الغناء ضمن حدود الحكمة.. فأمره بترتيل القرآن، وحسَّن له التغني به، وجعل لهذا الترتيل أصولا تصور معاني القرآن، وتبرز جمال صياغته المعجزة، كما تحفظ في الوقت نفسه للعربية ألقها الباهر، وخصائصها المميزة على مر الدهر.. وبذلك أقام الإسلام للمسلم فنا جديدا يروي ظمأه، ويمتع وجدانه، ويسمو بأشواقه الروحية إلى آفاق لا يحلم بها سواه..