كنت أظنك يا لحيتي العزيزة غير ذات أثر في سلوكي وخلقي وتفكيري, ولكنّي بعد أن صحبتك حينا وكنت فارقتك أحيانا، بعد هذا عرفت الأمر على خلاف ما كنت أظن وأحدس.
لعلك في ذكر لم تنسَىْ بعدُ مواضع كادت تزلّ بها قدمي، ومواطن فيها كدت أصير إلى هلكة، فوقفت بحزم وبقوة، صائحة في وجهي: مكانك شيخ! لست بصاحبة لك في هذا الموطن, خير لي أن أموت قبل هذا وأكون نسيا منسيا, إمّا أن تعود بي إلى الفندق وهناك فراق ما بيني وبينك، وإما أن تجتثني ها هنا على قارعة الطريق على ما في ذلك من ذل لي وهوان. ذلك خير لي ألف مرة من أن أشاهد مكانا تشغل فيه الخطايا وتصيح فيه الآثام.
وحين أسمع ذلك منك أرتد إليك بصيرا وأقول: الحمد لله أن لم أفرط شيئا في جنب الله، وشكراً لك يا لحيتي هذه الغضبة العارمة التي كانت في سبيل الله.
وما أكثر المواقف التي تقفين فيها حارسة يقظى, ومستشارة أمينة حين يغفل القلب، ويجمع الهوى، وتطغى نزعات الشيطان.
فأنا منك في الطريق دائما في رعاية ووصاية، أسمعك تقولين من حين إلى حين: هذا لا ينبغي لك، هذا لا يجمل منك، هذا لا بأس به عليك. وأراك أحيانا تسكنين وتسكتين فأمضي في أمري قدما لا أتردد.
ولقد بان لي يا لحيتي العزيزة أن لك أثراً في معاملة الناس لي وفي حكمهم عليّ، ولعلك لم تنسَيْ بعدُ حين سحنا في الأرض، وكنّا نطوف على الفنادق ننشد غرفة نأوي إليها في كل مدينة حللنا بها، لعلك لم تنسَيْ ما كنت ترين:
بعض أصحاب الفنادق كان قد تلقاك لقاء غير ذي ودّ، فمنذ أن طلعتِ عليه وقبل أن تسأليه شيئا أو تنبسي ببنت شفة قال بجفاء وغلظة - وهو يزوي ما بين عينيه -: لا مكان، لا مكان!! ثم لم يكترث ولم يلتفت ولم يعقّب، ومضى في شأنه كأن لم يكن هناك شيء، فرجعتِ على الأعقاب تهتزين غضبا وثورة، ولا تدرين من حنق ماذا تصنعين، فبدل أن تهبطي بالمصعد إلى الأرض صعدت به في السماء.