إن الذي يحفظه التاريخ للمسيحية من كل ذلك باختصار شديد هو ما يلي جماعة من رجال الدين في كل عصر تستطيل على الناس بسلطانها الديني وتتطاول على كراسي الحكم بغير حق وتدعي لنفسها أنها ظل الله في الأرض فتتحكم في رقاب البشر باسم الله والله من كل ذلك الظلم بريء، وتخدر الناس بالرضا بالواقع لأنه حكم الله. وتعتبر كل خروج على آرائها خروجا على الله، وتقمع جميع الحركات التحررية والعلمية، وتخنق الثورات والنهضات بهذه الحجة وتجعل حصيلة كل ذلك وسيلة لشهوات حفنة قليلة من رجال الدين برئاسة البابا، وقد كان لموقف رجال الدين من النهضة العلمية في أوربا ضرره البالغ على الديانات كلها في العالم وعلى الإسلام بوجه أخص، وذلك حينما وقفت العقول المتحجرة سدا منيعا أمام التيار العلمي المتدفق وحرمت على الناس استخدام حقهم الطبيعي في التفكير والإبداع وبررت ذلك التحجير والتحريم باسم الدين.
كفر العلماء بذلك الدين المتحجر الذي يقاوم وجودهم ويهددهم في حياتهم وفي مبتكراتهم العلمية ويكرههم على البقاء في ظلمة الجهل والتخلف، وكنتيجة طبيعية لهذا الموقف نشأت الحركة العلمية في ظل الإلحاد ثم غزت العالم كله وهي تحمل هذا الطابع وتنفر بالتالي من كل دين ومن كل ما يمت إلى الله بصلة وقد نسيت أن تميز في حركة اندفاعها وشرودها عن الكنيسة وعن دينها ورجالها أن تميز بين دين ودين وحكمت على الديانات كلها بالإعدام واعتبرتها منافية للعقل والعلم وأخرجتها بذلك من ميدان الحقائق العلمية المسلمة إلى عالم الخرافات والأحلام والشعوذة ففقدت الديانات بذلك قدسيتها وتأثيرها على الناس وأصبح الدين كالمجرم الذي أدين ووضع في قفص الاتهام وعلى أثر انزواء الدين من المجتمعات طغت فيها مردة الأبالسة من الملاحدة وخرج الأمر كله بذلك من يد أهل الخير والصلاح.