وقد جاءت الآثار الكثيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في اختصاص المدينة بفضل العلم، فمنها ما روى كثير بن عبد الله عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إن الدين ليأرز إلى المدينة كما تأرز الحية إلى جحرها" [5] ومعنى هذا الحديث أن الإسلام يقوم بأهل المدينة كما قال القاضي عياض:"والله ما يأرز إلا إلى أهله الذين يقومون به ويشرعون شرائعه ويعرفون تأويله ويقومون بأحكامه، وفي ذلك من مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم لا للأرض والدور ولكن لأهلها" [6] . وقال ابن أبي أويس سمعت مالكاً يقول في معنى هذا الحديث: "بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ" أي يعود إلى المدينة كما بدأ منها" [7] فمن هنا أخذ مالك قوله بعمل أهل المدينة. والباب واسع ما أردت الإحاطة ولكن ليس معنى ذلك أن السنة الثابتة إذا جاءت من ثقاة ضابطين وخالفها عمل المدينة فكان مالك يقدم العمل حاشا وكلا أن يكون هذا مراد مالك، بل معناه أن مخالفة عمل أهل المدينة للسنة الثابتة المتواترة أمر مستحيل لما كان لهم من فضل وتقدم ومشاهدة التنزيل وكيف تجتمع الأمة على ضلاله بعد خبر النبي صلى الله عليه وسلم، فإن قلنا إن المراد بالأمة هنا الأمة الإسلامية عامة يجاب عنه بأن أهل المدينة أولى بهذا لقرب عهد الصحابة ووجودهم بالمدينة بكثرة هائلة كبيرة لم يرَ مثلها في أي بلد من البلاد، فقد عاش السائب بن يزيد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم 84 عاماً ومرثد بن عبد الله 79 عاماً وسهل بن سعد 81 عاماً وعبد الله بن جعفر 80، وسلمة بن الأكوع 64، ورافع بن خديج64، وسعيد بن خالد الجهني 63، وأسماء بنت أبي بكر 63، وعبد الله بن عمر 63، وعوف بن مالك الأشجعي 63، والبراء بن عازب 62، وجابر بن عبد الله الأنصاري 68 وغيرهم من الصحابة. ثم وجود الفقهاء السبعة: عروة بن الزبير والقاسم بن محمد وخارجة بن زيد، وأبو بكر بن عبد الرحمن وسليمان بن يسار وعبيد الله بن