وهكذا قُدّر لفخري ورفاقه أن يتولوا كُبر هذا النضال، الذي رفع طاقة الشعب السوري إلى القمة.. وقُدّر له تبعاً لذلك أن ينال نصيبه من الاعتقال والتشريد، ثم يعود مع إخوانه لاستئناف الزحف دون هوادة ولا مهادنة، حتى شاء الله أن يحقق الرجاء، فيسلط على المستعمر الفرنسي زميله الإنجليزي بنهاية الحرب العالمية الثانية، فلا يزال هذا يحرض عليه، ويتيح السوريين أن يسوقوا الضربات إليه، حتى غادر الشام خاسئاً مدحورا.. وبذلك تسنى لكتلة أن تفرغ من مرحلة الكفاح إلى مرحلة الحكم، فتقيم الجمهورية - بعد الملكية العابرة - وتمكّن للشعب أن يترجم عن إرادته باختيار نوابه لأول مرة.. فيكوّن ثمة دولة حديثة، تتوفر لها كل وسائل التقدم..
ولكن.. هل وجد فخري في ذلك كله ما يخفف القلق الذي ما زال يشحن صدره منذ أيام معان؟؟ وهل استطاعت الزعامة التي تبوأها بعد الاستقلال أن تسكت ذلك القرع الذي ما انفك يدق في جنبات قلبه حتى الآن؟..
لقد أدرك فخري ببداهته أن المسيرة قد بدأت من نقطة الخطأ، وكان ذلك منذ آثر العاملون لها استبدال العصبية بالإسلام، فأعانوا أعداءهم على أنفسهم، وركنوا إلى الذين ظلموا فمستهم نار الدنيا قبل نار الآخرة.. إنهم - جميعاً - ليحسون بالأخطار تحدق بهم من كل مكان، وتنذرهم بألوان الحدثان..ولكنكم مع ذلك لا يعرفون سبيل إلى تداركها وصدها.. إنهم مسوقون إلى حيث لا يعلمون.. وإن أقدامهم لتنزلق كل يوم إلى حيث لا يتوقعون ولا يريدون. ومع استيقانهم ذلك كله لا يستطيع التوقف، فهم كالمنحدر في السفح، يرى هول ما هو صائر إليه، ولكنه لا يملك القدرة على اجتنابه …
وذات يوم بلغ التوتر أقصاه في أعصاب فخري وفي توقعاته.. فأقبل على رفيقه المسئول الأول يصرخ به: أيها الرجل.. إن الماء يجري من تحتك..