أما ثقافته فحسبنا شاهداً على قيمتها قول عدوه (أبي حيان) في كتابه (الإمتاع) الذي حشاه بالطعن على الصاحب، يقول أبو حيان: "كان الصاحب كثير المحفوظ حاضر الجواب، فصيح اللسان قد نتف من كل أدب شيئاً، ومن كل فَن طرفاً، حسن القيام بالعروض والقوافي، يقول الشعر وليس بزالٍّ وبديهته غزار".. ولا شك أن مثل هذه الثقافة تؤهل صاحبها للكلام في الشعر، ونقد معانيه وأساليبه، وتُسعفه بما يعوز الناقد من فنون الكلام، عندما يتناول أحد الشعراء بتعديل أو تجريح. وبهذا السلاح من الذكاء المثقف اقتحم الصاحب ابن عباد حرم المتنبي، فراح ينقب بين ثناياه لاستقصاء سقطاته، في ألوان من السخر الناجح، لا يتمالك قارئه إلا أن يقابله بالإعجاب الكثير، والضحك الوفير.
أبت عنجهية المتنبي وكبرياؤه إلا أن تترفعا عن مديح الصاحب، وهو الذي كان بابه ملاذ المئات من شعراء التكسب، فأثار بذلك حفيظة ابن عباد، وهاج نقمته، فكان لا مندوحة له عن تتبع عيوبه، ليسهم مع خصومه في الغض من قيمته، فراح يستقصي مواطن ضعفه، في إنصاف حيناً وفي جور حيناً آخر، وكان لمالئ الدنيا وشاغل الناس أنصاره المعجبون، الذين لا يعدمون القدرة على الذياد عن حياضه، لذلك وجب على الصاحب الواثق من نفسه ألاّ يكتفي بالقول يرسله في مجالسه الخاصة، فعمد إلى القلم، وإذا هو يخرج لنا رسالته التي يسميها: "الكشف عن مساؤئ شعر المتنبي"والرسالة هذه صغيرة لا يتجاوز ما يخص المتنبي فيها الخمس عشرة من الصفحات، ولكنها ذخيرة من بلاغة الصاحب ومقدرته في النقد الساخر … تقرؤها اليوم فتستعيد جو الحياة الأدبية الماتعة التي كانت تظل عهد كاتبها، وتتبين من خلالها دفقات من جيّد الكلام تكاد تكون نسيج وحدها في كل ما عرفه الأدب العربي من هذا الفن.
ولنأخذ الآن في استعراض [1] طائفة من هذا السخر الطريف.
يقول المتنبي في مدح سيف الدولة:
نحن من ضايق الزمان له فيك