وأياً ما كان رأيك وهواك، فقد سلكت زوجك الطريق الذي كنت أنت سالكه، لو ماتت هي وبقيت أنت حياً في شرخ الشباب ونضارة الصبا، فلا تثريب عليها فيما فعلت ولا عتاب، والنساء اللائي يصبرن على مكاره العيش ولأواء الحياة، وينشرن أجنحة الرحمة على أطفالهن مؤثرات نعيمهم وراحتهم على راحتهن ونعيمهن، أولئك نسوة قلائل، وقلائل جداً.
وقد تسالني في لهفة وحسرة، وخوف وإشفاق، وماذا صنعت أنت بأطفالي؟! أطفالي الذين كانوا همي وتفكيري وأنا أودِّع هذا العالم، وأكابد غصص الموت، أطفالي الذين طالما وضعت الخطط لمستقبلهم، وبنيت الآمال الكبار على شبابهم، أطفالي الذين تركتهم كزغب القطا ثم لا ماء ولا شجر، أطفالي …؟!
ما صنعت بهم إلاّ خيراً، وسوف أقص عليك نبأهم بعد حين.
دعني الآن أصلي وأسلم على رسول الله وأقول له: صلاة الله وسلامه عليك يا رسول الله، ما أكثر ما سمعت قولك: " أنا وكافل اليتيم له أو لغيره كهاتين في الجنة " وتشير بإصبعك السبابة والوسطى.
ما أكثر ما سمعت هذا القول، ولكن أذني وحدها التي تسمع، ثم لا يلبث تسمعه أن يطويه النسيان.
أما اليوم فإني لأسمعه بحواسي الخمس، وأذكره ليل نهار، صباح مساء، وأدركه عن بلاء وعناء وتجربة.
عانيت يا رسول الله تلك الكفالة التي ذكرت، وتذوقت طعامها الحلو المر، وسمعت نداءها الصاخّ والهامس، ولمست ما خشن منها وما لان، وملأ أنفي منها عطر ودخان، ورأت عيناي لها كثيراً من الصور، فعرفت لماذا أجزلت لها في العطاء، وأعليت شأنها ذلك الإعلاء، وأدركت أن ما قلته لم يكن من بابة الترغيب المحض والإغراء، ولا إسرافاً في الثواب والجزاء، وإنما كان منطق الحق والصدق والهدى والتجربة.
أما الآن فأعود إليك أيها الأخ الكريم الراحل، أعود إليك لأحدثك حديث أبنائك الذين تركتهم صغاراً، وأصبحوا اليوم كباراً، …