وذهبت مع شقيقنا الأكبر، حتى إذا انتهينا إلى المقبرة سلمنا على أصحابها، وأخذنا نجوس خلالها إلى أن قال لي: ههنا … فوقفت وسلمت، ونظرت فإذا حفرة كاد يعيفها الريح والمطر لولا حجارة صغيرة طوقتها من كل جانب. يا للموت!! لقد اتسعت هذه الحفرة الصغيرة لقامتك الفارغة، ولآمالك المضيعة، ولهمومك الكثيرة، ولِمَ لا تتسع؟! فالأموات في بطن الأرض ليسوا في حاجة إلى غرف استقبال يتباهون بما فيها من سجاد وكنب وزينة وتحف، وليسوا في حاجة إلى غرف نوم يستريحون فيها وينعمون ويحملون ويكسلون، وما بهم من حاجة إلى غرف للطعام يأكلون فيها أكثر مما ينبغي لهم، ليسوا في حاجة إلى هذا كله، ولا إلى ما يتصل به، ولا إلى ما هو أدنى من ذلك ولا أكثر، لقد ضل عنهم ما كانوا على ظهر الأرض يفعلون.
أما أمك فقد ظلت بقية عمرها مكلومة الفؤاد، لا تكاد ترقأ لها دمعة، أو تخمد لها لوعة، حتى لحقت بك.
يا للأمهات ويا لقلوب الأمهات!! يظللن وفيَّات طول العمر، وعلى نوائب الدهر.
أما زوجك فقد حزنت ما حزنت، حتى إذا عرض لها الزوج الذي ترتضيه تركت بقايا حزن كانت لا تزال عالقة بأذيال ثوبها، وألقت بأولادك الثلاثة إليّ، كما يلقي المسافر بمتاع أثقل عاتقيه، وحنى قائم صلبه، وأقبلت على حياتها الجديدة كما يقبل عباد الله الذين تصيبهم الجراحات حيناً من الدهر، ثم تندمل على كر الغدايا ومرّ العشايا.
لست أدري أكنت في حياتك الدنيا تذهب مذهب القائل:
أهيم بدعدٍ ما حييت فإن أمت
فلا صلحت دعد لذي خلة بعدي
أم كنت ترى هذا القائل أنانيّاً غيوراً ظلوماً؟