وأيضاً فأهل اللغة قالوا: لا يكون استوى بمعنى استولى إلاَّ فيما كان منازعاً مغالباً، فإذا غلب أحدهما صاحبه قيل: استولى، والله لم ينازعه أحد في العرش، فلو ثبت استعماله في هذا المعنى الأخص مع النزاع في إرادة المعنى الأعم لم يجب حمله عليه بمجرّد قول بعض أهل اللغة مع تنازعهم فيه، وهؤلاء ادّعوا أنّه بمعنى استولى في اللغة مطلقاً.
تاسعاً: أنَّ معنى الاستواء معلوم علماً ظاهراً بين الصحابة والتابعين وتابعيهم، فيكون التفسير المحدث بعده باطلاً قطعاً، وهذا قول يزيد بن هارون الواسطي، فإنَّه قال: "إنَّ من قال: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} خلاف ما تقرّر في نفوس العامة فهو جهمي"، ومنه قول مالك: "الاستواء معلوم"، وليس المراد أنَّ هذا اللفظ في القرآن معلوم كما قال بعض الناس: استوى أم لا؟ أو أنَّه سُئل عن الكيفية ومالك جعلها معلومة، والسؤال عن النزول ولفظ الاستواء ليس بدعة ولا الكلام فيه، فقد تكلّم فيه الصحابة والتابعون، وإنَّما البدعة السؤال عن الكيفية".
وقد أبطل العلاّمة ابن القيم هذا التأويل الفاسد في كتابه الصواعق المرسلة من اثنين وأربعين وجهاً، فلم يدَعْ رحمه الله لمبطل متعلّقاً.
فإذا تبيّن فساد هذا التأويل الذي هو أشهر تأويلات هؤلاء، فإنَّ ما سواه من التأويلات أشدّ فساداً وأكثر بعداً عن الحق والصواب.
وقبل أن أختم هذا المبحث أودّ التنبيه على أمرين:
الأول: كلام القاضي أبي يعلى في كتابه إبطال التأويلات بعد أن ذكر أثر أم سلمة في آية الاستواء حيث قال: "فقد صرّحت بالقول بالاستواء غير معقول، وهذا يمنع تأويله على العلوّ والاستيلاء".
قال هذا رحمه الله، مع أنَّ لفظ الأثر عنده "الاستواء غير مجهول"أي غير مجهول المعنى وهو العلو والارتفاع كما تقدّم فكيف يُقال: إنَّه يمتنع تأويله بالعلوّ، مع أنَّ هذا هو معنى اللفظ في لغة العرب.