وكثيراً ما كانت قافلة الحج تضطر إلى الرجوع وقد فاتها الحج أو الزيارة بعد أن قصدوا ذلك من مكان سحيق، وتكلفوا بذل الأموال، وتجشموا مشاق الأسفار في البر والبحر، فكانوا يذوبون من الشوق على ما فاتهم، ويتحرقون من الوجد، ويبكون بصيب الدمع، والناس بأجمعهم يحوقلون، ويقولون: "ليس لها من دون الله كاشفة"ذاهبين إلى أن سطو الأعراب هؤلاء داء عضال لا تنفع فيه حيلة ولا وسيلة وقد عمت بهم البلوى وإلى الله المشتكى [17] . وهكذا توالت القرون والحقب والناس على هذا الاعتقاد لا يتزحزحون عنه إلى أن آل أمر الحجاز إلى الملك عبد العزيز بن سعود منذ بضع عشرة سنة فلم تمض سنة واحدة حتى انقلب الحجاز من مسبعة تزأر فيها الضواري في كل يوم بل في كل ساعة إلى مهد أمان وقرارة اطمئنان، ينام فيها الأنام بملء الأجفان، ولا يخشون سطوة عاد ولا غارة حاضر ولا باد، وكأن أولئك الأعراب الذين روعوا الحجيج مدة قرون وأحقاب لم يكونوا في الدنيا، وكأن هاتيك الذئاب الطلس تحولت إلى حملان فلا نهب ولا سلب ولا قتل ولا ضرب، ولو شاءت الفتاة البكر الآن أن تذهب من مكة إلى المدينة أو من المدينة إلى مكة أو إلى أي جهة من المملكة العربية السعودية وهي حاملة الذهب والألماس والياقوت، والزمرد ما تجرأ أحد أن يسألها عما معها.
ما من يوم إلا وتحمل فيه إلى دوائر الشرطة لقط متعددة ويؤتى بضوال فقدها أصحابها في الطرق وأكثر من يأتي بها الأعراب أنفسهم خدمة للأمن العام.
وإبعاداً للشبهة عنهم، وعن ذويهم فسبحان محول الأحوال ومقلب القلوب والله لا يوجد في هذا العصر أمن يفوق أمن الحجاز لا في الشرق ولا في الغرب ولا في أوربا ولا في أمريكا، وقد تمنى المستر كراين الأمريكي صديق العرب الشهير في إحدى خطبه أن يكون في وطنه أمريكا الأمن الذي رآه في الحجاز واليمن.