وورد في الحديث أن الصلاة في المسجد الحرام تتضاعف مائة ألف مرة عن الصلاة فيما سواه، وبذلك تتميز بقعته عن سائر بقاع الأرض، وتبقى له خصوصية ليست لسائر أرض الحرم حوله، ولا يختلف اثنان في أن الصلاة بقرب الكعبة، واستقبال عينها أكثر تفضيلاً من الصلاة خارج المسجد الحرام لمن استقبل جهتها.
وفي سير الصحابة والتابعين لم يظهر أن أحداً منهم سكن في الحل، واتخذ لنفسه موقعين، الأول لأمور عبادته في الحرم والثاني لأهله وعياله وشئون دنياه في الحل. إلاَّ ما ورد في الأثر أن ابن عمر، وعبد الله بن عمرو بن العاص قد اتخذا لنفسيهما فسطاطان أحدهما في الحل والآخر في الحرم، فإذا أرد أحدهما العبادة من صلاة وغيرها دخل الفسطاط الذي في الحرم، وإذا أراد شيئاً من أمور الدنيا دخل الآخر الذي في الحل [74] .
وهذا يراد به أرض الحرم دون المسجد الحرام، وهو ورع منهما، يصعب على كل من أراد ذلك أن يفعله، لأن أكثر المصالح الدنيوية داخل أرض الحرم، وكذا جلّ الدور والمرافق فيها. ومثل هذا الفعل لا يتأتى إلاّ إذا اعتبرنا (الحل) أرض مكة و (الحرم) أرض المسجد الحرام.
فوجب أن نفصل بين أرض الحرم وبين المسجد الحرام في مضاعفة الأجر، والمؤاخذة (بالإرادة) المجردة لئلا يجد الناس القاطنون بجوار بيت الله عنتاً ومشقة و {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلا وُسْعَهَا} .
ولو نذر أحدهم الاعتكاف في المسجد الحرام لزمه في البيت الحرام، ولا يجزئه مكاناً آخر في حرم مكة، مما يدل أن هناك تخصيصاً وتعميماً للمراد بالحرم، والمسجد الحرام.
قيل: المسجد الحرام مسجد الجماعة، ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم: "صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه، إلاّ المسجد الحرام" والإشارة بمسجده إلىمسجد الجماعة، فينبغي أن يكون المستثنى كذلك [75] .