وغض الصوت فيه أدب وثقة بالنفس واطمئنان إلى صدق الحديث وقوته، وما يزعق أو يغلظ في الخطاب إلا سيئ الأدب أو شاك في قيمة قوله، أو قيمة شخصه، يحاول إخفاء هذا الشك بالحدة والغلظة والزعاق.
والأسلوب القرآني يرذل هذا الفعل ويقبحه في صورة منفرة محتقرة بشعة حين يعقب عليه بقوله: {إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} .
فيرتسم مشهد مضحك يدعو إلى الهزء والسخرية، مع النفور والبشاعة ولا يكاد ذو حس يتصور هذا المشهد المضحك من وراء التعبير المبدع، ثم يحاول شيئاً من صوت هذا الحمير.
يقول القرطبي: في هذه الآية دليل على تعريف قبح ردع الصوت في المخاطبة، والملاحاة بقبح أصوات الحمير لأنها عالية، وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "وإذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان فإنها رأت شيطاناً" (1) .
وقد روي: إنه ما صاح حمار ولا نبح كلب إلا أن يرى شيطاناً.
وقال سفيان الثوري: صياح كل شيء تسبيح إلا نهيق الحمير.
وقال عطاء: نهيق الحمير دعاء على الظلمة.
وهذه الآية أدب من الله تعالى بترك الصياح في وجوه الناس تهاوناً بهم أو بترك الصياح جملة.
وكانت العرب تفخر بجهارة الصوت الجهير وغير ذلك، فمن كان منهم أشد صوتاً كان أعز، ومن كان أخفض كان أذل حتى قال شاعرهم:
جهير الكلام جهير العطاس
جهير الرواء جهير النعم
ويعدو على الأين عدوى الظليم
ويعلو الرجال بخلق عمم
فنهى الله سبحانه وتعالى عن تلك الخلق الجاهلية بقوله: {إِنَّ أَنْكَرَ الأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ} أي لو أن شيئاً يهاب صوته لكان الحمار، فجعلهم في المثل سواء.