ومن أمثلة المُسَلَّمَات الاحتجاج على الخصم بما لا يجد بُدَّاً من التسليم به فحين احتج إبراهيم على المَلِك بأنَّ الربَّ هو الذي يُحيي ويُميت، كابَرَ وأَنكر التسليم بذلك فغالط وادعى أنه يُحيي ويُميت فَرَدَّ عليه إبراهيم عليه السلام بقضية مُسَلَّمَة لا يستطيع معها المكابرة {فَإِنَّ الله يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} (1) , فلم يستطع الملك إنكار هذه القَضية {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَر} (2) .
ومن أمثلة ذلك الاحتجاج بالمبدأ وهو مُسَلَّمٌ لإثبات المعاد على من ينكره {قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ, قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ} (3) .
ومثل هذا المسائل والقضايا وإن كانت مُسَلَّمَة إلا أنها تحتاج إلى نَظَرٍ وكَسْبِ ولا يجدُها الإِنسان في نفسه من غير إعمالٍ للفكر ولا عِلْمٍ بسببها مما هو خاَص بالبدهيات.
ولعله يظهر بهذا النوعُ الذي نريد دراسته هنا من القضايا التي تناولها القرآن الكريم وهي القضايا التي يستغرب التالي للقرآن والمتدبرُ لمعانيه النَصَّ عليها في القرآن مع أنَّ حصولها لا يتوقف على نظر وكَسْب ولا يختلف فيها عقل، فقوله تعالى: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَة} (4) . بعد قوله: {فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} , قضية بدهية لا يحتاج إدراكُها بعد تَوجّه العقل إلى شيء أصلا.
وكذا قوله تعالى: {وَلا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْه} (5) , فإنَّ ذِكْرَ طيران الطير بجناحيه مما يدعو إلى السؤال عن السِّرِّ في النص على ذلك مع أنه من البَدَهيّ أنَّ الطير لا يطير إلا بجناحيه فيكفي في إدراك ذلك مجرد ذكره دون ذكر آلة طيرانه فهذا لا يحتاج إلى أكثر من توجه العقل.
والبدهيات – فيما أحسب - تنقسم من حيث مصدر البداهة إلى قسمين: