وبذلك يكون بشار بن برد - في هذه القصيدة على الأقل - قد طلع على الشعراء بمحاولة جديدة استبدل فيها الوقوف على الأطلال أو الغزل التقليدي بقصة غزلية ذات أهداف عملية، واءم فيها ما بين ذات نفسه والنوازع الجامحة في طور اجتماعي طارئ تفاقم فيه الثراء وتمطت البطالة.

وإذا كان بعض النقاد يرفض أن يحاكم بشاراً إلى الأخلاق في شعره هذا، ويجنح في محاكمته إلى الفن وحده فقد رأينا خلو هذا الشعر من الرصيد الإِنساني، وكل أدب مضمونه الإنساني ضحل هو أدب لفظي، كان يتعالى عنه الشاعر الجاهلي في وقفاته على الأطلال. فمن منا لا يستشعر حزناً شاجيا عميقاً في الأبيات الأولى من معلقة امرئ القيس، يهيمن على الشاعر فيها إحساس حاد بمأساة الزوال أو الفناء الإِنساني من خلال مواكب الظاعنين الذين يطويهم الزمان تاركاً من بعدهم منازل مهجورة صوىً لوجودهم العابر، ومن ثم فقد انحدر حزنه عبر دمعة صادقة في قوله:

فهل عند رسم دارس من معول [43]

وإن شفائي عبرة مهراقة

ومن لا يشعر بالسرور الهادئ العميق في لحظة التعرف على الديار وما تسحب وراءها من تاريخ للأحباب والأصدقاء، في التحية الهادئة في بيت زهير:

ألا أنعم صباحاً أيها الربع واسلم [44]

فلما عرفت الدار قلت لربعها

وكذلك تغدو الديار في مقدمة رائية النابغة مثار ذكريات لا تخبت إلا إذا خبا قلب صاحبها الإِنسان، ومن بين الثمام والحجارة السود تهلّ عليه أغلا صور الماضي وأحبها:

والدار لو كلمتنا ذات أخبار

فاستعجمت دار نعم ما تكلمنا

إلا الثمام وإلا موقد النار

فما وجدت بها شيئا ألوذ به

والدهر والعيش لم يهمم بإمرار

وقد أراني ونعماً لاهيين معاً

ما أكتم الناس من حاجي وأسراري [45]

أيام تخبرني نعم وأخبرها

إنه استدعاء للماضي الذي لن يعود بما فيه من سذاجة براءة ونعمة، وإذ زال وانطوى فالمرارة الآن بعد الزوال.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015