وبالنسبة للنقطة الثالثة: ركز المخصصون على كثرة التخصيص وجعلوها مرجحة للتخصيص عند تردد الأمر بينه وبين النسخ واحتماله لهما.

وقالوا: التخصيص أولى من النسخ، لأنه من جهة الوقوع أغلب من النسخ والحمل على الأغلب وقوعاً أولى.

ولم يقف الأمر عند بعضهم في حدِّ اعتقاد كثرة التخصيص وأغلبيته، بل جاوزوا هذا الحد وقالوا: "ما من عام إلا وخص"وحتى هذا القول قد خص بقوله تعالى: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} (1) . ولكن الناسخين رفضوا هذه الكثرة ولم يسلموا بتلك الأغلبية، بل إنهم قالوا: "إن التخصيص أقل القليل "وعللوا أقليته بكونه لا يتم إلا بكلام مستقل مقارن وهذا قل أن يحدث ويوجد.

وبتفحيص النظر وتدقيق الفكر فيما ذهب إليه الطرفان وما قالاه، نجد أن كلا القولين جاوز حد الاعتدال وتخطى رقاب ما هو واقع، ومن هنا جاء رفض استقراء النصوص الشرعية للقولين معاً. فإذا سلم بكثرة التخصيص فإنه لا يقرّ القول بأنه (ما من عام إلا وخص) فلم تصل الكثرة إلى هذا الحد الذي ذهب إليه المخصصون.

والمتتبع لنصوص الشريعة يجد كثرة كاثرة من عموماتها غير مخصوصة فالقارئ لكتاب الله الكريم يفتتح فاتحته بعمومات لم تخص: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} (2) فالله سبحانه وتعالى رب كل العالمين وجميعهم بحيث لا يخرج من ذلك شيء فهو عام لم يدخله التخصيص نهائيا. وكذلك: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} (3) فكل ما في يوم الدين يملكه الله تعالى بأجمعه لا يخرج منه شيء فهو عام لم يدخله التخصيص.

وهكذا من تتبع يجد الكثير والكثير مما يدحض دعوى (ما من عام إلا وخص) وكما لا يقر القول بندرة ما لم يخص، كذلك لا يقر القول بندرة ما خصص فالقول بأنه (أقل القليل) يرفضه استقراء النصوص الشرعية أيضاً ولعل فيما ذكر فيما سبق من البحث غنية عن ضرب الأمثال الذي يطيل بنا المقال.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015