من هذه الحالات قالوا: إذا قيل في شهر "لا تكرم الجهال"ثم قيل في شهر آخر: "أكرم الناس"ثم قيل في شهر ثالث: "لا تكرم العلماء"فقد اتفق على أن قوله "أكرِم الناس"لا يعد لغوا، وعدم اعتباره لغواً إنما يتأتى بناء على عدد القول بالتخصيص مطلقا، لأنه لو قيل بالتخصيص مطلقاً سواء كان الخاص متقدما على العام أو متأخراً عنه لزم لغوه، لأن كلاًّ من (لا تكرم الجهال) و (لا تكرم العلماء) يجعل مخصصاً ومبينا أن المراد من (أكرم الناس) حين وروده كان غير الجهال والعلماء، وحينئذ لا يبقى شيء من الناس لأن الناس ينقسم إلى قسمين الجهال والعلماء، فإذا خص منه الجهال بـ (لا تكرم الجهال) يبقى العلماء فقط، وإذا خص العلماء منه أيضاً بـ (لا تكرم العلماء) لا يبقى منه شيء فيكون لغوًا وقد اتفق على عدم كونه لغواً.

فلو كان الخاص مخصصاً للعام مطلقاً، لزم لغو ما اتفق على عدم لغوه.

ولكن المخصصين لم يعتبروا هذه الحالة من الحالات التي يتردد الأمر فيها بين النسخ

والتخصيص حتى يكون تحتم النسخ فيها مرجحاً للنسخ على التخصيص فقالوا: إن التخصيص إنما يقال به عند تعارض العام والخاص.

أما إذا تعارض الخاص مع الخاص فإن الثاني ينسخ الأول. وما ذكروه من المثال من قبيل الثاني دون الأول. لأن الناس إذا خص منه الجهال يبقى العلماء فقط وهم المأمور بإكرامهم. فإذا قيل: لا تكرم العلماء يكون نهياً عن إكرامهم. والنهي عن إكرام من أمر بإكرامهم يكون نسخاً لا تخصيصاً، لأن الأمر بالإكرام والنهي عنه وردا على شيء واحد، وهو العلماء.

والممعن للنظر في هذه الحالة المفروضة يدرك أنها في غير محل البحث إذ البحث يجري فيما يمكن فيه التخصيص والنسخ، لا الحالة المتعينة لأحدهما ففي فرضها غض للنظر عما يجري فيه الخلاف فلا تصلح مثبتة للدعوى ولا ملزمة للمخالفين، لأنها مما اتفق الطرفان على تعينه للنسخ، فلا تصلح مرجحة للنسخ عندما يكون التخصيص ممكناً.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015