ثم إن بين قول الملائكة: {إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ} وبين قولهم: {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَه} لم يتخلل إلا سؤال إبراهيم بقوله: {إِنَّ فِيهَا لُوطا} والتخلل بمثل هذا لا يعد - تأخيرا، لأن مثل هذا يجري فيما بين المبين والبيان كالتخلل بانقطاع نفس، أو سعال - مثلاً - مع أنة يعتبر مقارناً.

فسؤال إبراهيم عليه السلام ينزل منزلة ذلك، فلا يجعل التخصيص متأخراً، ولأنه لو لم يكن لبادر بالّسؤال لبادر الملائكة بالبيان والتخصيص. فلا دليل في الآية على جواز تأخير التخصيص.

3 - قال الله تعالى لنوح عليه السلام: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ ... } الآية فالأهل بعمومه كان شاملاً للابن ثم خرج ابنه بقوله تعالى: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ} (1) وكان هذا الإخراج متراخياً بعد أن نادى نوح ربه فقال: {رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ} (2) فقال تعالى: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِح} (3) .

فتأخير تخصيص الأهل في هذه الآية الكريمة يدل على جواز التخصيص بالمتراخي.

وأجيب عن هذا الدليل:

بأن قوله تعالى: {يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} ليس تخصيصا تراخي عن العام وإنما هو أحد أمرين:

الأمر الأول: أنه بيان للمجهول؛ لأن الأهل شاع في مفهومين: النسب كالابن والزوجة وغيرهما والأتباع الموافقون، وإذا كان المفهوم الأول معروفاً غنياً عن الاستدلال فإن المفهوم الثاني يدل عليه قوله تعالى: {فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ} (4) ، فبين الله تعالى بقوله: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} أنه أراد بالأهل أحد المفهومين وهو الثاني الذي هو الأتباع.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015