لقد حافظ الإسلام على كرامة الإنسان- أي إنسان - مهما يكن لونه وجنسه ودينه ولغته ووضعه الاجتماعي، ففي الوقت الذي كان الرسول الله صلى الله عليه وسلم يهاجم عقائد اليهود والنصارى بسبب اتخاذهم أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله يحلون ويحرمون [65] كان يوصي بهم خيراً، ويزورهم ويكرمهم ويحسن إليهم ويعود مرضاهم، ويأخذ منهم ويعطيهم، فقد استقبل وفد نجران في مسجده بحضرة المسلمين [66] وأجرى الصدقة على أهل بيت من اليهود [67] ومات صلى الله عليه وسلم ودرعه مرهونة عند أبى الشحم اليهودي [68] وكان في وسعه أن يقترض من أصحابه ولكنه أراد أن يعلم أمته، وقد وقف لجنازة يهودي مرتّ به [69] . وسار أصحابه رضوان الله عليهم والمسلمون من بعدهم على هديه، فعمر بن الخطاب يمّر على يهودي يتسوّل فيبكى ويقول: "أكلناه في شبيبته، وخذلناه عند هرمه، ويفرض له ولأمثاله من بيت مال المسلمين" [70] ، وطعنه أحد أهل الذمة بالتآمر مع اليهود والنصارى [71] . وقال وهو في النزع الأخير: "أوصى الخليفة من بعدى بأهل الذمة خيرا، أن يوفي بعهدهم وأن يقاتل من ورائهم وألاّّ يكلفهم فوق طاقتهم" [72] . فهل هناك جسور فوق هذه الجسور يجب مدّها بين المسلمين وبين غير هم؟ إنها جسور قائمة ولا تنقطع- لأن انقطاعها يعني انقطاع دعوة الإسلام- التي حفظها الله من الانقطاع- نعم ما انقطعت هذه الجسور منذ أن ظهر الإسلام وظهرت دولته وطبقت أحكامه على أرض الواقع، وما وهنت إلا عندما انحسرت أحكامه على أرض الواقع، ولكنه بقى على النطاق الفردي يهذب الإنسان. أما في مجال العقيدة- فما هي الجسور التي يمكن مدها بين عقيدة "لا إله إلا الله"وعقيدة تقول: إن الله ثالث ثلاثة [73] . أو عقيدة تقول الله خاص بنا ونحن أحباؤه وأبناؤه وما خلق الله البشر (في زعمهم) إلا لخدمتهم كالحيوانات (الجوبيم) [74] أو عقيدة مادية ملحدة مبنية على صراع الطبقات تقول الحياة