ثالثا: إنه يمكن أن تقام البيّنة على وقوع القرينة ويتأكد القاضي من ثبوتها ففي المثال المتقدّم قد يشهد اثنان أو أكثر على رؤية الواقعة، أما الفراسة فلا يتوفر فيها ذلك، فلا يستطيع أحد الشهادة عليها وإن صحّ وقوعها على قلب اثنين أو أكثر فتلك حالة نادرة.
رابعا: القرينة قد تصلح دليلاً لبناء الأحكام القضائية ومستنداً للقاضي في فصل النزاع كما سنبين ذلك. أما الفراسة فلا يصح الحكم بها على قول جمهور الفقهاء خلافاً لابن القيم.
القرينة والعرف:
وقبل أن نبيِّن آراء الفقهاء في القضاء بالقرينة نشير إلى ما لاحظناه من ارتباط وثيق بين القرينة والعرف.
والعرف: هو ما تعارف عليه الناس وساروا عليه من قول أو فعل أو ترك, بحيث لا يخالف دليلا شرعيا أو يحلّ حراما أو يبطل واجبا، والعرف بهذا المفهوم قد راعته الشريعة طالما أن الناس تعارفوا عليه واتفق مع حاجاتهم ومصالحهم، فقد راعى الشارع الحكيم عرف العرب ففرض الدية على العاقلة واعتبر العصبية في الإرث ولهذا يقول الحنفية: "المعروف عُرفاً كالمشروط شرطاً"و"الثابت بالعرف كالثابت بالنص", وقد غيّر الإمام الشافعي- رحمه الله - بعض أحكام مذهبه بعد أن ذهب إلى مصر لاختلاف أعرافهم عن أعراف أهل العراق [28] .
ويظهر ارتباط القرينة بالعرف في صور يشكل فيها العرف قرائن تجب مراعاتها وملاحظتها، مثال ذلك: لقد تعارف الناس على البيع بالتعاطي وهو التبادل بين المتعاوضين من غير لفظ، فهذا عرف وهو في نفس الوقت قرينة دالة على رضا الطرفين بالبيع، وقد استجاب الفقهاء لمتطلبات العرف وتحرّروا بموجب هذه القرينة عن التقيُّد بشكلية اللفظ.