وترجع أهمية الإثبات إلى أنه الأداة الضرورية التي يعول عليها القاضي في التحقيق من الوقائع المطروحة في الدعوى , والوسيلة العملية التي يعتمد عليها الأفراد في صيانة حقوقهم المترتبة على تلك الوقائع , حتى أنه ليصح القول بأن كل تنظيم قضائي يقتضي حتما ً وجود نظام للإثبات. والواقع أن الغالبية العظمى من النظم القضائية نزلت على حكم هذه الضرورة وعنيت بالإثبات , إلا أنها لم تلتزم في ذلك مذهباً معينا. وبالاستقراء والنظر في هذه النظم نجدها قد سلكت ثلاثة مذاهب في الإثبات:
الأول: مذهب الإثبات المطلق , ويرمى هذا المذهب إلى عدم تقييد القاضي بطرق معينه وبل يترك للقاضي الحرية الكاملة في اتخاذ الدليل الذي يطمئن إليه , فله أن يستكمل ما نقص من الأدلة التي عجز عنها الخصم , وله أن يحكم بعلمه الشخصي , وله استدراج الخصوم ومباغتهم لانتزاع الحقيقة من أقوالهم. وإلى هذا المذهب تميل القوانين الوضعية الجنائية الحديثة بحجة تطور الجريمة وأساليبها وصعوبة إثباتها بالطرق المحددة.
غي أن هذا المذهب منتقد من حيث أنه يمنح القاضي سلطة واسعة قد تؤدى إلى اعتسافه وانحرافه عن جادة الصواب. فيتحكم في تعيين طرق الإثبات وتحديد قيمتها بما يهوي دون رقابة , كما يؤدى إلى اضطراب العدالة , وفقدان الثقة بالقضاء لاختلف التقدير من قاض لآخر , كما يشجع الظالمين المماطلين على المنازعة في الحق الثابت أملا في الإفادة من اختلاف القضاة في التقدير.
الثاني: مذهب الاثبات المقيد , ويقوم هذا المذهب بالحد من السلطة المطلقة الممنوحة للقاضي في المذهب السابق , وذلك بتحديد طرق معينة للإثبات , فلا يستطيع الخصوم إثبات دعواهم من خلالها , ولا يستطيع القاضي تكوين عقيدته إلا بهذا الدليل الذي حدده القانون , فلا يحكم بعلمه الشخصي , ولا يجعل للدليل قيمة أكثر مما هو محدد له بالقانون.