ومن أجل هذا، وتقديرا لأثر تلك الدوافع الخارجية رصدت الأمم الجوائز المادية والأدبية فجائزة نوبل وجائزة الملك فيصل - رحمه الله - وغيرهما من الجوائز قد أثمرت وآتت أكلها، ولها من الفوائد والنفع على العالم ما نلمس فوائده في المجالات التي رصدت لها.
وكلمة أخيرة في الموضوع يجب ألا تنسى: تلك هي: أن التطور لا يختص بمجال الاختراع والإبداع، في الجانب العملي من حياة الإنسان، ولكنه ينساق إلى مجالات شتى وغير محصورة في إطار مهما اتسع ذلك الإطار.
فهناك التطور الفكري الذي يلمسه الإنسان في نفسه وفي غيره عندما ينتقل من بيئة قروية أو بدوية إلى بيئة حضارية، وما قصة علي بن الجهم مع الخليفة العباسي مما يغيب على الذهن، فالشاعر_علي بن الجهم_ قد جاء من البادية، ووقف أمام الخليفة ليمدحه فقال:
أنت كالكلب في الحفاظ على الود
وكالتيس في قراع الخطوب
وكان الخليفة فطنا أريبا حين سمع ذلك، فأدرك أن ذلك القول لا يزيد عن انعكاسات خلفتها البيئة في نفس الشاعر، فأمر بإقامته في قصر منيف تحيط به الحدائق الغناء والزهور الباسمة وترك الشاعر فترة في ذلك العيش الرغد، والحياة البهجة، ثم جئ به لينشد الخليفة بعض شعره فأنشد:
عيون المهابين الرصافة والجسر
جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
فأين هذا من ذاك، وأين الثرى من الثريا؟
وهناك تطور آخر في السلوك، فكثيرا ما ينشأ الإنسان في بيئة زراعية أو صناعية فيتأثر بسلوك معين تمليه عليه طبيعة البيئة التي نشأ فيها، فإذا انتقل من هذه البيئة إلى بيئة علمية مثلا، وترك معاملة الشجر والزرع، ومرافقة الطيور والضرع، وودع حياة المصنع والمعمل أخذ يتهذب سلوكه ويتشكل بحسب الحياة الجديدة التي يحياها فهو يتخير الألفاظ اللينة، ويتكلم بصوت معتدل، ويفكر طويلا قبل أن يقدم على ما يريد، وذلك نوع من التطور ملحوظ في مثل تلك الظروف.