فجانس بين: سم سمة وسمسمة، وبين المكر والمكرمة.

أما من حيث الادعاء بأن البيتين لا يعززان ببيت ثالث فلم يكن الحريري الوحيد الذي قال بذلك فقد سبقه في ذلك أبو دلف في بيتيه:

أنا أبو دلف المهدي بقافية

جوابها يهلك الزاهي من الغيظ

من زاد فيها له رحلي وراحلتي

وخاتمي والمدى فيها إلى القيظ

إلا أننا إذا قرنا قول الحريري بقول أبي دلف، ظهرت لنا سلاسة النظم وسهولته عند الحريري، حتى أن التكلف يكاد يختفي وراء هذه البراعة، والمعنى عنده سهل واضح سام على خلاف ما يبدو في لي البيتين الأخيرين.

القلب:

الحديث حول الجناس قد يجرنا إلى الحديث عن القلب؛ وذلك للصلة التي نلمسها بين الجناس وجناس القلب، الذي هو إيراد كلمتين في جملة أو بيت واحد أحدهما معكوس الآخر، مثل قوله: "حسامه فتح لأوليائه، حتف لأعدائه"؛ فالجناس بين: فتح وحتف، لأنك إذا قلبت حروف أحد الكلمتين جاءتك الكلمة الأخرى.

فهذه الصلة نراها كافية من أن تنقلنا من الجناس إلى القلب: الذي هو أن الكلام لو عكس كان الحاصل من عكسه هو عين ذلك الكلام السابق، هو كما يكون في قلب الحروف يكون في قلب الكلمات، ولا يضر عندهم: مد المقصور ولا قصر الممدود، أو تخفيف المشدد أو تشديد المخفف، كذلك جعل الهمزة ألفا أو العكس، أو تبديل بعض الحركات والسكنات.

وللحريري في هذا الميدان براعة لا يشق له غبار، فقد دخل الرجل في الميدان بالتدريج من المفردات إلى الجمل والأبيات الشعرية حتى المقالة أو الرسالة الكاملة، وتكلف في ذلك تكلفا بالغا، ولم يترك لونا من ألوان الكلام إلا قلبه.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015