هذا والظاهر أن الرجل قد تكلف وألزم نفسه ما ليس بلازم؛ لكي يأتي بهذا اللون المزدوج.
وعلى كل حال فقد أظهر القدرة الفنية وإن كانت بصورة معقدة التي تغضب شيخ البلاغة عبد القاهر الجرجاني، ولعل مثل هذا التكلف هو الذي دعاه إلى القول بأن المعاني ينبغي أن تترك على سجيتها، لأنها إذا تركت ستكتسي بالألفاظ الملائمة لها وعند ذلك تحسن.
وللحريري مثل هذا الازدواج في النثر أيضا، ونورد هنا مثالا يسيرا منه.
قال في المقامة الثالثة الدينارية: "يا أخائر الذخائر، وبشائر العشائر، عموا صباحا وانعموا اصطباحا، وانظروا إلى من كان ذا ندي وندى، وجِدة وجدا، وعَقار وقُرى، ومقار وقِرى؛ فما زال به قطوب الخطوب، وحروب الكروب، وشرر شر الحسود، وانتياب النوب السود، حتى صفرت الراحة وقرعت الساحة ... " [26] ومثل هذا كثير في كلام صاحبنا.
وللحريري لون آخر من التجنيس، وهو أن يفصل بين الكلمة وأختها بكلمة واحدة.
يقول في ذلك: "أرعى الجار ولو جار، وأبذل الوصال لمن صال، وأحتمل الخليط ولو أبدى التخليط، وأود الحميم ولو جرعني الحميم، وأفضل الشفيق على الشقيق، وأفي للعشير وإن لم يكافئ بالعشير، وأستقل الجزيل للنَّزيل، وأغمر الزميل بالجميل، وأنزِّل سميري منزلة أميري، وأحلّ أنيسي محل رئيسي.."وهكذا، إلى أن قال: "ولا أبالي بمن صرم حبالي، ولا أداري من جهل مقداري، ولا أعطي زمامي من يخفر ذمامي.." [27]
وهذا الأسلوب كثير ومتنوع في نثره يطول الكلام في تتبعه والجري وراءه.
ينبغي هنا أن نشير إلى ذلك الجناس المركب الذي جاء به الحريري في البيتين المطرفين المشتبهي الطرفين الذين وصفهما بأنهما أُمِنا أن يعززا بثالث، فأورد الجناس في أول كل بيت مع آخره، وهما في المقامة السادسة والأربعين قال:
سم سمة تحسن آثارها
واشكر لمن أعطى ولو سمسمة
والمكر مهما استطعتَ لا تأته
لتقتني السؤدد والمكرمة