يبدو أنني قد أطلت في ذكر ألوان التورية النثرية والشعرية، وحان أن ننتقل إلى لون آخر، إلا أنه ينبغي أن نشير إلى القول بأن هذه التورية هي أقرب منها إلى ألغاز منها إلى التورية الاصطلاحية؛ فقد علق عليها أبو العباس الشريشي بقوله: "لقد أحسن أبو محمد في هذه الفتاوى، وأجاد وبلغ مبلغا من الاقتدار والاتساع فوق المراد، وإن كان لا يوصف فيها بالابتداع فلقد أحسن في الاتباع، فالسابق إليها هو أبو بكر بن دريد في كتاب سماه بالملاحن، وهو أن توري بلفظ عن لفظ، ثم تمم تلك الأغراض وحسنها أحمد بن عبيد الله في كتاب سماه بالمنقذ، وفائدتها التخلص من الظلم أو تسلط غاشم، لا أن يقتطع بها حق مسلم" [20] .
هذا ولنقرب هذا اللون إلى الأحجية أشير هنا إلى أن الحريري لم يبخل بها؛ فقد أوردها منظومة في المقامة السادسة والثلاثين؛ فلتراجع هناك، أما نحن فسنمضي إلى لون آخر.
الجناس:
يبدو أن الحريري يعتبر من أقدر الكتاب في إيراد الجناس والسجع في الكلام، أما السجع فهو من الأمور التي لا تفارق كلامه؛ لهذا لا نتحدث عنه حديثا مستقلا بل ندعوك لملاحظته في كلامه كله وخاصة في النثر، فانظر مثلا إلى هذه القطعة الآتية التي نأتي بها مثالا لمقدرته في الجناس وتفننه فيه، كما شرطنا سنشير إلى كل حكم بصور عامة لا نفصل القول، ولا نتناول الأجزاء والتقسيمات الفرعية.