عبد الله النديم فارس الكلمة وقائد الثورة
أ. مجدي داود*
بسم الله الرحمن الرحيم
شارك النديم فى ثورة الجيش المصرى ... واختاره زعيم الثورة أحمد عرابى مستشارا مدنيا له، سخر عبد الله النديم صحفه للحديث عن الأوضاع الفاسدة وعن النفوذ الأجنبى وراح ينتقد وبشدة الخديو توفيق ورياض باشا .. وفى هذا يقول: وأعلنت حب العسكر والتعويل عليهم، وناديت بانضمام الجموع إليهم، وأوغلت فى البلاد ونددت بالإستبداد، وتوسعت فى الكلام، وبينت مثالب الحكام الظلام، لا أعرفهم إلا بالجهلة الأسافل، ولا أبالى بهم وهم ملء المحافل.
* * *
إن تاريخنا حافل بتاريخ الرجال الذين عاشوا وماتوا وما ضعفوا وما استكانوا، عاشوا مجاهدين يحملون أكفانهم على أيديهم ويسيرون نحو العدو بقلوب مخلصة ونوايا صادقة، وماتوا شهداء أو بقوا رجالا في ثبات شديد لم ينل منهم الضعف والذل، ولم يكن لهما منهم نصيب، ولم تغيرهم الأيام والسنون بل هم الذين صنعوا تاريخا مجيدا وتراثا مشرفا.
من هؤلاء عبدالله بن مصباح بن إبراهيم الإدريسى الشهير بعبدالله النديم الذى كان مولده يوم عيد الأضحى المبارك عام 1261هـ، 1845 م بمدينة الإسكندرية بشمال مصر (انظر: عبد الله النديم خطيب الثورة العربية ص 33).
وهو من السادة الأشراف من نسل الإمام الحسن بن على بن أبى طالب رضى الله عنهما (انظر عبد الله النديم خطيب الوطنية ص 18)
وقد حفظ الشيخ القرآن الكريم فى الكتاب وهو فى التاسعة من عمره، وقد اشتهر الشيخ فى طفولته بذكائه وعلو همته ونبوغه.
ولست هنا بصدد سرد السيرة الذاتية لعبد الله النديم رحمه الله، بل هى محاولة للإستفادة من حياته وتجاربه عن طريق تسليط الضوء على بعض مواقفه وأفعاله البطولية ومحاولة اسقاطها على الواقع الذى نعيشه، وتطبيق ما يمكننا تطبيقه مع مراعاة اختلاف الظروف والأحوال.
لقد كان النديم يكتب فى صحيفة مصر وكذلك فى صحيفة التجارة التى كان يصدرها أتباع الشيخ جمال الدين الأفغانى وكانت مقالاته تحث الناس على التغيير والثورة على هذه الأوضاع الفاسدة التى يعيشونها ويسلحهم بالوعى والمعرفة لمآلات الأمور إن استمر الحال على ما هو عليه دون تغيير.
وكان يركز على النفوذ الأجنبى واستبداد الخديوات بالحكم وقهرهم الناس، وإغراق البلاد بالديون الكثيرة، وكان رجل عذب الكلام فصيح اللسان يقرأ له كثير من الناس، وبعد أن أوقفت هذه الصحف قام هو بإنشاء صحف وكان يديرها ومن أشهرها صحيفة التنكيت والتبكيت، وكان يستغل هذه الصحف أيضا فى توعية الناس مع علمه أن الخديوى اسماعيل ومن بعده توفيق لا يألون جهدا فى النيل ممن يتحدث عنهم وينتقدهم.
وهنا لنا وقفة، فكثير ممن لديهم موهبة الكتابة اليوم لا تراهم يكتبون، ولا تراهم يتحركون من أجل إيصال ما لديهم من فكر إلى الناس، ولو علم هؤلاء أهمية هذه الكلمات التى يستهينون بها والتى يعتبرونها من الأمور التافهة لما تأخروا فى التقدم لها، وإذا كتبوا تراهم لا يكتبون إلا ما يذهب بالأمة نحو التخلف والإنهيار، ويدعى أن هذه مدنية وتقدمية وأن ما سوى ذلك رجعية وتخلف، تراه لا يذكر هموم الناس ولا يتحدث عنها وإذا ذكرتها عنده راح ينظر للأفكار الضالة من علمانية وليبرالية وغيرها، وإذا ذكرت عنده قضايا الأمة راح يكتب عن الإرهاب والسلام، فكان سكوته حينئذ خير من كلامه، فما تكلم إلا بشر.
وهناك من إذا ذكرت عنده النفوذ الأجنبى تجده يحاول أن يبرر هذا الأمر بحجة أنهم الأقوى وأنهم إن يتدخلوا فى أمورنا خير من أن يقوموا باحتلال أرضنا، وكأننا إما أن نوافق على أن يتحكموا فى كل شؤوننا أو يحتلوا أرضنا، فهؤلاء كتاب وذاك كاتب، ولكن شتان شتان بين كاتب وكاتب.
وهناك من إذا قلت له بلدك محتلة فادع الناس إلى مساعدة المجاهدين تراه يثبط ويحبط، وتراه يتهرب من المسؤولية، بل تجد البعض يحمل سكينا حادا ويضعه على رقاب المجاهدين متهما إياهم أنهم السبب فى سفك الدماء وتدمير البيوت، فهؤلاء أحيانا بل غالبا يكونون ملكيين أكثر من الملك.
ومنه أيضا نستنتج أنه على المجاهد والمقاوم أن يبحث عن كل سبيل وكل طريق لينشر به فكره بين الناس، ولكى يعرف الناس أهدافه واستيراتيجيته، ولكى يدعو الناس للإلتفاف حوله ودعمه ومساندته، فالإعلامى المجاهد يكتب فى الصحف، ويشارك فى البرامج الحوارية والمؤتمرات والندوات، بل ويبث الفضائيات ومواقع الشبكة العنكبوتية (الإنترنت) فلا يدع طريقا إلا سلكه، ولا سبيلا إلا سار فيه، ولا يستهن بالإعلام وقدرته على التأثير فى الناس.
تولى الخديو توفيق حكم مصر بدلا من أبيه اسماعيل وكان توفيق يتودد للشعب ولحزب الإصلاح الذى كان يرأسه جمال الدين الأفغانى، ولكن بعد أن تولى الحكم تمكن منه القنصلان البريطانى والفرنسى فصار لا يقطع أمرا بدونهما بل صارا هم كأنهما الحاكم الحقيقى لمصر، فقبض توفيق على الأفغانى ونفاه خارج البلاد وأغلق صحفه، فتفرق أنصاره ولكن النديم لم يهرب ورأى أن البلاد قد صارت أسيرة فى يد الأجانب، فراح يصرخ بأعلى صوته، وأقام المحافل الخطابية فى الإسكندرية وانتقد فيها نظام الحكم بأسلوبه الأدبى البسيط الذى يفهمه العوام، وأنشأ مع بعض أنصار الأفغانى صحيفتى (المحروسة والعهد الجديد).
هكذا يجب أن يكون دور المثقف الذى أوتى من حسن الكلام ما أوتى، فبدلا من أن يهرب من مواجهة الأمور كما قد يهرب البعض تاركا الساحة خالية لدعاة الفساد والإفساد، وتاركا الدولة كلها فريسة فى يد الأجانب، يقف هو فى هذا التغلغل الأجنبى ويجتهد فى منعه من السيطرة على البلاد وعلى الحكم فيها، وكذلك على ثرواتها ومقدراتها، حتى وإن لاقى فى سبيل ذلك ما يلاقيه.
شارك النديم فى ثورة الجيش المصرى وهو أول من انضم إلى التشكيلات العسكرية من المدنيين واختاره زعيم الثورة أحمد عرابى مستشارا مدنيا له، سخر عبدالله النديم صحفه التى يديره للحديث عن الأوضاع الفاسدة وعن النفوذ الأجنبى وراح ينتقد وبشدة هذه المرة الخديو توفيق ورياض باشا رئيس الوزارة وفى هذا يقول النديم (وأعلنت حب العسكر والتعويل عليهم، وناديت بانضمام الجموع إليهم، وأوغلت فى البلاد ونددت بالإستبداد، وتوسعت فى الكلام، وبينت مثالب الحكام الظلام، لا أعرفهم إلا بالجهلة الأسافل، ولا أبالى بهم وهم ملء المحافل) (انظر تاريخ مصر ص 56).
وقد هم رياض باشا بنفى النديم خارج البلاد وأصدر مرسوما بذلك وأرسله للخديو لإقراره، ولكنه فشل فى مسعاه إذ تصدى لذلك بعض قادة الجيش المصرى.
ليس هذا فحسب بل إن النديم كان يقوم بتشكيل التجمعات الشعبية المناصرة للثورة وكان هو حلقة الوصل بين قادة الثورة العسكريين وتلك الجماهير المدنية العريضة، وعمل على جمع التوقيعات الشعبية التى تنيب أحمد عرابى لكى يمثل الشعب المصرى أمام الخديو توفيق حاكم مصر وقتئذ، والنديم الذى زار القرى والنجوع والكفور وراح يخطب بأعلى صوته، مستخدما فى ذلك موهبة الخطابة الفذة التى وهبه الله إياها، وقد اشتهر بين الناس من قبل بكلامه الحسن وخطبه الرنانة فكان لا ينزل بلدا إلا التف حوله الناس واستمعوا إلى خطبه وأحاديثه.
وهنا يجب أن نتعلم أن الجهاد ليس فقط فى ميدان المعركة، بل يكون الجهاد بالكلمة والدعوة والمال، فإن خطبة صادقة تخرج من قلب صادق تكون ذات تأثير فعال، وإن حث الناس على التمسك بالجهاد والقتال فى سبيل الله هو من الجهاد، لذا فإن العدو يحاول جاهدا أن يكمم الأفواه وأن يخرس كل صوت يطالب بدعم المقاومة وينظر لها.
لم تكن ثورة الجيش المصرى مجرد تمرد غير مبرر على حاكم البلاد الخديو توفيق، ولكن كان لهذه الثورة العديد من الأسباب من أهمها كثرة الديون ونهب ثروات البلاد، وزيادة النفوذ الأجنيى فى مصر، وخسارة الجيش المصرى فى حرب الحبشة وتفضيل الضباط الجراكسة على أمثالهم ونظرائهم من المصريين، وكثير من الأسباب الأخرى لا مجال هنا لذكرها، ولهذا رأى النديم فى تحرك الجيش المصرى وثورته أملا فى تغيير الواقع المر الذى تعيشه البلاد.
إن التحالف بين رجال الجيش ورجال الفكر إذا كان مستندا إلى مصالح البلاد دون المصالح الشخصية والفئوية الضيقة هو أمر طبيعى، بل هو الواجب أن يكون، لأن رجال الفكر هم الذين ينبهون الشعوب ويعرفونهم بما يريده رجال الجيش وبدون رجال الفكر لن يستطيع الجيش إيصال هدفه للناس والحصول على الدعم الشعبى لمطالبه، أما إذا كان التحالف يستند إلى مصالح شخصية فسوف يقود الدولة أو الأمة إلى مزيد من الفساد والتخلف، وسيطرة المستعمر على البلاد.
بعد أن اطمأن الأميرالاى أحمد عرابى إلى مناصرة الشعب له وبعد أن جمع النديم توقيعات كثيرة جدا من الشعب المصرى تفوض أحمد عرابى بالتحدث باسمه، زحف عرابى إلى قصر عابدين فى 9/ 9/1881 فى مظاهرة عسكرية مهيبة وكان النديم هو المدنى الوحيد الذى حضر هذا اللقاء وكان دوره هنا هو أن يحمى رجال الجيش من أن تضعف عزائمهم أو تثبط هممهم، ويقول أحمد عرابى نفسه عن هذا اليوم (واشتدت شوكة جيش البغى وقويت معارضته، هنالك ابتلى المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا، فجال صديقى الأعز الهمام صاحب الغيرة والعزم القوى السيد عبدالله نديم بين الصفوف ينادى {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات / 9]، فكان معى ثانى اثنين فى حفظ قلوب الرجال من الزيغ والإرتجاف، وأخذ الكل يردد هذه الآية الكريمة، كأنهم لم يسمعوها إلا من فمه فى تلك الساعة) (أحمد عرابى: كشف الستار عن سر الأسرار ص 266 - 267)
لم يجد الخديو توفيق بد من الإستجابة لمطالب الثوار من الجيش خاصة أن الجيش بدا متماسكا ومن يقود هذه الثورة هو أحد الفلاحين الذى يحظى بثقة الجميع، واستقرت الأمور فى مصر بعض الشئ، لكن ذلك الإستقرار وتلك الحرية التى بدأ المجتمع المصرى يعيش بداياتها لم ترق للأجانب خاصة فرنسا وانجلترا، لأن مصالحهم فى مصر قائمة على الظلم والنهب وهذا لن يكون مسموحا به فى ظل وجود جيش حر قوى وشعب عالم بأمور السياسة، فما أن وافق الخديو على مطالب عرابى حتى خرج عرابى والنديم وطافوا البلاد شرقا غربا يحدثون الناس عن الحرية، ويحذرونهم من التدخل الأجنبى والسكوت عنه، ويحدثونهم عن الميزانية ومراقبة الحكومة وفى هذا تقول صحيفة التايمز البريطانية نقلا عن أحد مراسليها فى القاهرة (قال لى صديق يعرف اللغة العربية جيدا أنه فى صباح يوم واحد عد فى السوق 27 مجموعة من الناس يتحدثون عن الميزانية أو الوزارة أو التدخل الأجنبى) (التايمز 10/ 3/1882)
إن هذه الصحوة التى عاشها المجتمع المصرى لفترة وجيزة من الزمن كانت بفعل نشاط رجال الفكر وعلى رأسهم عبدالله النديم، الذى لم يكن يترك فرصة للحديث إلا ويتحدث عن مشاكل الأمة وأمور البلاد، لم يكن يعرف حدا يجب أن يتوقف عنده، لم يكن يدعى أن أمور السياسة لا يفهمها إلا الساسة وأن على الناس أن يطيعوا ساستهم حتى ولو باعوا الوطن للأعداء، لم يكن ليرى الأجانب يتحكموا فى ميزانيات الدولة ويسكت، بل حدث الناس، وأخبرهم وعلمهم حتى صاروا هم الذين يتحدثون فى هذه الأمور التى يخجل البعض اليوم من التحدث عنها.
عندما وصل الأسطول الإنجليزى وبعده الأسطول الفرنسى إلى مدينة الإسكندرية، أصدر الإنجليز مذكرة إلى الخديو توفيق بنفى الزعيم أحمد عرابى وكان وزيرا للحربية حينئذ خارج البلاد وتحديد أقامة زملاءه وإقالة وزارة محمود سامى البارودى فقبلها الخديو توفيق، فثارت ثائرة الشعب المصرى فما كان من النديم الرجل المفكر فارس القلم والكلمة إلا أن وقف يخطب الناس يحثهم على التمسك بقيادة الجيش والثورة والألتفاف حولهم، ليس هذا فحسب بل لقد ذهب إلى مدينة الإسكندرية حيث يقف الإنجليز على بعد كيلومترات قليلة منه وخطب فى عشرة آلاف رجل يحث الناس على التمسك برفض مذكرة الإنجليز، بل طعن فى وطنية الخديو توفيق وفى أهليته وكفاءته للحكم وكان من نتاج هذه الحملة الشعبية الكبيرة التى قادها النديم عبر خطبه الرنانة ومقالاته ومعه أمثاله من أهل الفكر أن أعيد أحمد عرابى إلى منصبه وزيرا للحربية.
إن موقف النديم من الخديو توفيق هو موقف شجاع من رجل لا يعرف المهادنة، بل هو الموقف الطبيعى فى مثل هذه الظروف، ففى وقت تكون فيه البلاد معرضة للعدوان من الأعداء فيقف الحاكم مع العدو لا يكون للعلماء والمفكرين السكوت ولا الرضوخ، ولا المداهنة بل عليهم حينئذ أن يكونوا هم طليعة الأمة كلها فى رفض هذا التحالف والوقوف ضده وإفشاله مهما كلف الأمر ومهما كانت العواقب لأنها وإن عظمت فلن تكون أعظم من أن تسلم البلاد للعدو يفعل فيها ما يشاء.
فى تلك الأثناء حاول بعض الخبثاء تعكير الأجواء بين الشعبين المسلمين المصرى والسورى، فهاجمت أحدى الصحف المصرية السوريين واتهمتهم بممالأة أعداء الأمة، فما كان من إحدى الصحف السورية إلا أن ردت بالمثل، فقام النديم وهو المفكر الكبير الخبير بما يحاك للأمة بكتابة مقال حمل اسم (المصريون والشاميون) (الطائف 21/ 6/1882) نادى فيه بالوحدة وعدم الوقوع فى فخ الإنقسام ونشر مقاله فى كل الصحف، فكان له الفضل فى انتهاء الأزمة.
وهنا درس لعلماء الأمة ومفكريها الكبار ألا ينجروا وراء دعوى الوطنية الكاذبة، وألا يصطف كل عالم مع حاكمه ضد الدول الإسلامية الأخرى، بل عليهم إن هم وجدوا بوادر أزمة وشقاق أن يكون لهم السبق فى العمل على إنهاء الأزمة والخروج منها وتوحيد الصف، لكننا اليوم نرى أشياء عجاب، نرى العلماء والمفكرين هم الذين يزيدون الشقاق ويكثرون الخلاف بين أقطار الأمة.
فى تلك الأثناء كان الإنجليز يتعلون الأزمات فى مدينة الإسكندرية ويوقعون بين المصريين والأجانب حتى حدثت مجزرة بين الجانبين، هنالك اتخذها الإنجليز حجة فضربوا المدينة، ولأن الجيش لم يكن على استعداد للمعركة فقد سقطت الإسكندرية بسرعة رغم وقوف الشعب كله خلف الجيش لكن كانت إمكانيات العدو أضعاف أضعاف ما لدى الجيش المصرى ورمى الخديو توفيق نفسه فى أحضان الإنجليز، وحينما وصل الخبر إلى النديم هرع إلى الإسكندرية فرآها محترقة ليس فيها أحد من أهلها فقد أخلوها، واجتمع النديم مع أحمد عرابى ومحمود سامى البارودى وقرروا مواصلة القتال من مدينة كفر الدوار.
حينئذ بدأ النديم مهمته الكبرى التى برز فيها كقائد الثورة الحقيقى، فكان يجوب البلاد شرقا وغربا يدعو الناس إلى دعم الجيش، ويحثهم على قتال الإنجليز، ويحدثهم عن الجهاد وفضله وفضل القائمين عليه، ويحذرهم من القعود الجهاد لما له من عواقب وخيمة، فكان مما قال (يا بنى مصر ... هذه أيام النزال، هذه أيام النضال، هذه أيام الذود عن الحياض، هذه أيام الذب عن الأعراض، هذه أيام يمتطى فيها بنى مصر صهوات الحماسة وغوارب الشجاعة ومتون الإقدام لمحاربة عدو مصر، لا بل عدو العرب، لا بل عدو الإسلام ... ) (الطائف 28/ 7/1882)، وقد أعلن النديم بعد سقوط الإسكندرية الحرب على الخديو توفيق فما كان يترك فرصة إلا وينال منه ويحرض الناس عليه.
هذه الكلمات وغيرها أشعلت غيرة المصريين فالتف الشعب حول الجيش وكانت الناس تقدم للجيش كل ما يمكنم تقديمه، ثم بعد ذلك التحق النديم بقوات الجيش ليكون مع قائده أحمد عرابى ليتشاوروا فى كيفية ملاقاة العدو، وكان يراسل صحيفته بأخبار الحرب الدائرة حتى صارت صحيفته هى الصحيفة الرسمية للمعركة.
وقد أشعل الإنجليز حربا أخرى بجوار الحرب العسكرية المشتعلة، ألا وهى حرب الأعصاب فقد أصدروا بينا يؤكدون فيه أنهم ليسوا أعداء الشعب المصرى، وإنما هم نواب الخديو جاؤوا فقط لمساعدته على تمرد أحمد عرابى ومتى أعادوا للخديو حقوقه المسلوبة وقبضوا على عرابى خرجوا من البلاد.
هنالك انتبه النديم إلى خطورة هذا الأمر فلم يترك الإنجليز يصلون إلى مرادهم بالخبث والخديعة، بل أعلن حربا عليهم، وراح يصفهم بأبشع الأوصاف وويصورهم للناس فى أقذر صور، وراح يثير ضدهم الشائعات، فزادت النفوس اشتعالا وحقدا للإنجليز وللخديو الذى يساعدهم.
أى رجل هذا الذى يفعل كل هذه الأشياء؟!، بل أى مفكر يقف هذه المواقف؟!، هل نجد فى زماننا هذا علماء ومفكرين يدركون ما يحاك للأمة من أخطار ومكائد؟!، هل نجد فى زماننا يكشف للناس خطط الأعداء ويحذرهم من الوقوع فى شركهم؟!، إن علماءنا اليوم أبعد ما يكونوا عن واقع الأمة وآلامها.
ولكن مع كل هذا قدر الله أن يهزم الجيش المصرى بسبب الخيانة، وأن يسيطر الإنجليز على البلاد، فقبض على الزعيم أحمد عرابى والبارودى ونفوا خارج البلاد ولكنهم لم يستطيعوا القبض على النديم فاختفى النديم فى الريف المصرى، وكانت الحكومة قد أعلنت عن مكافأة قدرها ألف جنيه مصرى لمن يدلهم على مكان النديم، ولكن مع هذا بقى النديم تسعة أعوام مختفيا لم يخبر أحد عنه إلى إن قبض عليه بسبب خيانة أحد أعضاء البوليس السرى، ثم عفى عنه ونفى خارج البلاد.
إن ما فعله النديم فى حياته من وقوف مع الشعب ومناصرة له ودفاعا عن قضاياه ومصالحه، والوقوف فى وجه الحكام والتعرض للأذى هو الذى دفع الناس إلى الوقوف بجانب النديم حينما صار مطاردا مطلوبا لقوات الإحتلال الإنجليزى، فهكذا هم الرجال حينما يقعون فى أزمة ويكونون فى محنة تجد الناس ينصرونهم ويدافعون عنهم، فليت فينا اليوم من يقف هذه المواقف الشجاعة.