وطبقا للتسلسل الزمني والموضوعي في جمع هذا التراث فقد رأينا أن نبدأ بتراث النديم الصحفي، خصوصًا وأن هذا التراث هو الذي بدأ به النديم الاتصال بسواد الشعب المصري في محاولة منه لتكوين رأي عام، ونجح في ذلك إلى حد كبير لدرجة أن لقبه البعض بأنه صحفي القرن التاسع عشر بلا منازع، ولقبه البعض الآخر بأنه أذكى ناقد لأوربا في مصر (?)، وقبل أن نتعرض لهذا التراث ينبغي أن نتطرق إلى نشأة النديم ومصادر ثقافته.
ولد عبد الله النديم بالإسكندرية في عام 1843 ونشأ في أسرة كادحة حيث لعب الفقر دوره في حياته الأولى وتآزرت العوامل التي جعلته يشعر بآلام شعبه فقد كان والده خبازًا يصنع الخبز ويبيعه ويحصل من ذلك على مقدار الحاجة من العيش البسيط هو وأسرته، وتربى النديم في مسكن متواضع في حارة ضيقة من حواري حي الجمرك بالإسكندرية وأرسله والده إِلى كتاب الحي لتعلم مباديء القراءة والكتابة فبرز بين أقرانه، وظهر نبوغه حيث أعانته موهبته على سرعة الفهم والحفظ، ولما كانت أحوال والده المادية ضعيفة أحجم عن إرساله إلى الأزهر، واستبدل بذلك إرساله إِلى الجامع الأنور لقربه من منزله، ولكن النديم لم يصبر طويلاً على الدراسة في هذا الجامع حيث أحس بجفافها وعقم الطريقة التي تدرس بها فضلاً عن رداءة الكتب كما وجد في نفسه ميلاً واستعدادًا لشيء لا يستطيع منه خلاصًا ولا عنه انصرافًا وهو الأدب فخرج من الجامع إلى الشارع أو إلى الحياة الواقعية فكانت بمثابة الجامعة التي تعلم منها كثيرًا وشاهد فيها كثيرًا واغترف منها ما يشبع مزاجه وهوايته في الأدب فأحاط بالحياة الشعبية، وسمع الأمثال والحكايات من شعراء الربابة ونوادر الظرفاء كما ارتاد النديم المنتديات والمقاهي والمجالس الأدبية التي كانت تعقد في بيوت الأثرياء، وفي حوانيت التجار المحبين للأدب يتطارحون الشعر وغير ذلك من فنون الأدب فنزل النديم إلى هذه الحلبة وفاق أقرانه وتفوق على أساتذته واشتهر أمره حيث برزت قدراته الخطابية والكتابية ولما سمع النديم