الأستاذ. . صفحة في حياة الصحافة الساخرة،، محمد العدوي
كانت الشمس سكرى وهي تجمع ما تناثر منها وقد استترت بشجرات بعيدة في الأفق .. حتى لتحسب احمرار السماء في ذلك الوقت خجلا من الكون كله يقدمه وما يدري أيُغفر له أم لا، وتحت كافورة قائمة على الشاطئ الغربي للوادي وقف شيخ أو هكذا بدا من ردائه يتكئ بكتفه على الكافورة وقريبا منه يجلس شاب آخر قد جمع ثيابه عليه كما يفعل الخائف .. كان كلاهما ينظر للأفق البعيد .. يتبع الموج الهادئ بنظره وفي عقله موج آخر ثائر فائر، فهو الآن (الشيخ) مطارد مطلوب وهذا الشاب هو خادمه الذي خرج معه .. وكل جندي في مصر من جنود الخديوي أو جنود الإنجليز يبحثون عنه .. مرت صور كثيرة في ذهنه وهو في موقفه هذا .. الإسكندرية .. دمياط والمنصورة .. قصر الوالدة باشا الأميرة خشيار خانم أم الخديوي اسماعيل بجاردن سيتي .. وخليل آغا .. ثم قهوة متاتيا بالعتبة الخضرا وصورة كبيرة ملأت خاطره .. صورة شيخه جمال الدين وقد اجتمع الناس حوله في قهوة متاتيا يسمعون حديثه، كان الأفغاني أول أمره يدعو للإصلاح الديني ويراه طريق الإصلاح السياسي والاجتماعي لكن الحديث تغير والتنديد بالظلم والاستعباد قد أخذ أسلوبا آخر .. بدأ الناس يسمعون أن لهم حقوقا لا بد أن يطلبوها وأنهم مطالبون بإبداء آرائهم في جميع شؤون البلاد .. وأصبح الحديث صريحا عن مساوئ إسماعيل ومظالم الإنجليز .. وبدأت نفوس الشباب تفور وولدت حركات وعلت في الأفق أسماء وخرجت صحف وفي لحظة انهزم العرابيون وقبض على أكثرهم ودخلت البلاد في محنة عظيمة وأصبح هذا الرجل هو المطلوب الأساسي والوحيد من قبل الحكومة ..
هو عبد الله بن مصباح بن ابراهيم الإدريسي الشهير بعبد الله النديم .. صاحب مجلة التنكيت والتبكيت والطائف والأستاذ .. وكلها صحف فكاهية ساخرة كانت لسانه للإصلاح.
وما ملابسات عصره التي ساهمت في تشكيله ..
وأساليبه في الكتابة والنقد والفكاهة ..
نثرياته وزجله ..
هذا هو الحديث هنا .. فاسمعوا.
بدأت مصر حياة جديدة .. فالقاهرة تحقق حلم الخديوي إسماعيل في أن تكون عاصمة تفوق في حسنها باريس وفينا .. ((ولم تكن إلا سنوات حتى قامت القصور على شواطئ النيل بين الجزيرة والروضة وفتحت المدارس ومدت السككك الحديدية واتصل البحران في مشهد فذ في التاريخ شهده ملوك أوروبا)) .. وأسرف إسماعيل في الاستدانة حتى أرهقت مصر بديونها وفتحت الباب للأجنبي في التدخل بشؤونها ..
في تلك الفترة كانت الحياة الداخلية تتشكل بصورة جديدة، في القاهرة والمدن الكبيرة على الأقل. ظهرت الصحافة السياسية وأصبحت هناك حركة قومية دستورية ترمي إلى تقيد سلطة الحكومة المطلقة.
افتتحت أول مدرسة لتعليم البنات وبدت بوادر الحركة النسائية. وافتتحت المسارح وانشئت دار الأوبرا وأخذت الحياة الثقافية اشكالا جديدة لم تعرفها البلاد ويمكن القول أنها كانت فترة ميلاد للثقافة الجديدة.
ولد النديم في يوم عيد الأضحى بالاسكندرية سنة 1845، قضى بضع سنوات يتلقى العلم بالمسجد الأنور يحضر حلقات الفقه والنحو واللغة لكنه سرعان ما ترك الدرس فلم يعد يحفل به وانصرف عن التعلم وسئم الكتب وخط لنفسه طريقا غير التي رسمها له أبوه.
انطلق إلى التسكع في الطرقات، يندس بين الناس إذا رآهم مجتمعين يتندرون أو يتسامرون. حفظ أحاديثم واطلع على طبقات المجتمع المختلفة فخيره أبوه بين أن يستمر في التعلم أو ينطلق لحال سبيله ويتولى هو أمر نفسه، وكان حينها في السابعة عشر من عمره .. فخرج من الإسكندرية يجوب القرى والمدن يجد - شأنه شأن كل الظرفاء الجوالين - مكانا عند العمد وأعيان البلد .. فيخالطهم ويمتعهم بزجله وطرفه ويعرف عاداتهم وأشكال حياتهم ..
نزل ضيفا عند أحد الموظفين الكبار في السكك الحديدية واقترح عليه أن يرتب له عملا حكوميا يستقر به، وعينه عامل (برق) في التلغراف ببنها، لكنه ضاق بالحياة هناك سريعا وكان وكتب لصديقه الذي عينه يشتكي له من ضوضاء القطارات وضيقه بمن حوله من أوباش وصفهم فقال: ((أعبدهم إذا رأى الخمر هام، فلا يرد إلا الحمام، وأصلحهم (نواسي) العمل، وأقنعهم (أشعبي) الأمل .. لا يركعون ولا يتصدقون ويخلفون ولا يصدقون، ولا يرون عيبا في فحش .... ) إلى آخر ما كتب , فنقل إلى القاهرة عاملا في مكتب تلغراف القصر العالي (قصر الوالدة باشا أم أفندينا بلسان زمانهم) وهناك تفتحت عينه على حياة جديدة ملؤها الأبهة والفخامة .. كان في القصر فرقة موسيقية لعزف الأدوار الغربية تحت رئاسة مديرة حائزة أرقى الشهادات من أوروبا، غاية في الجمال والروعة، كانت ترتدي أثناء إقامة الحفلات سترة من الجوخ الأحمر المزخرف بالقصب وسروال من الصوف الأزرق وقد رصع صدرها بالنياشين وعلى راسها طربوش وفي يدها عصا فضية .. وفي القصر أيضا فرقة لعزف الموسيقى التركية بمصاحبة فرقة من المغنيات المصريات وكان فيه أيضا فرقة للتمثيل المسرحي وفرقة من أجمل راقصات أوروبا .. ومجموعة من الجواري والوصيفات .. وفوق كل هؤلاء خادم أسود مرهوب الجانب اسمه (خليل أغا) ورتبته باشي أغا الأميرة .. وكلمته سيف على الجميع .. ومن علو مقامه أن كبار الأعيان حينما حضروا حفل زفاف الأمراء (حسن وحسين وتوفيق) كانوا جميعا يقبلون يده ..
في هذه الأثناء اتصل النديم بالأفغاني في قهوة متاتيا وعرف هناك محمود سامي البارودي ومحمد صفوت الساعاتي والسيد علي أبو النصر وهما شاعرا المعية السنية ..
وحدث أن أغضب (خليل أغا) مرة فطرد من القصر وسدت أمامه كل سبل التعين الحكومي فهام مرة أخرى في البلاد ثم عاد للقاهرة واتصل مرة أخرى بالأفغاني وانضم لحزب الإصلاح وهو حزب أنصار الأفغاني وكان نصيبه هو مقر الاسكندرية فانطلق إليها وأنشأ هناك الجمعية الخيرية الإسلامية وولي هو نظارتها وفي مدرستها كتب أول مسرحياته الوطنية وأخرجها على مسرح (زيزينيا) في حضور الخديوي وكبار رجال الدولة، وكانت بعنوان (الوطن وطالع توفيق) لكنها فتحت عليه عين رياض باشا رئيس الوزراء فسلط عليه أعوانه يخرجوه من الجمعية حتى استقال النديم بعد أن ضيق عليه الخناق.
في هذه الفترة عزم النديم على إصدار أولى صحفه ورأى أن تكون بنسق غير مسبوق .. فقد أرادها أن تكون صحيفة الخاصة والعامة من أبناء الأمة وسماها (التنكيت والتبكيت) وصدر العدد الأول منها في 6/ 6 / 1881 وسأفصل الحديث عنها إن شاء الله ..
اتصلت صلته بأحمد عرابي ورأى أن يغير اسم الجريدة إلى (الطائف) وجعلها لسان حال الثورة العرابية.
ولما انتهت الثورة العرابية نهايتها المعروفة أصبح النديم من المطلوبين .. إلا أنه ظل هاربا في قرى مصر يخفيه أحباؤه ومريدوه تسع سنوات كاملة .. تحول خلالها النديم إلى أسطورة مصر التي يحفظها الكبير والصغير ونسجت حوله الحكايات وأطلقت الإشاعات ورفعت هذه السنوات ذكره كما لم تفعله خطبه وكتاباته من قبل.
وحدثت له في تلك السوات مغامرات لا تخطر ببال .. ونجا من أن تمسكه الشرطة مرات كثيرة بأعاجيب .. وفي أحد الأيام ضاق خادمه بحياة المطاردة وأراد أن يعود لأهله وخشي النديم إن سمح له أن يدل عليه ثم طرأت له فكرة فقال لخادمه ولم يكن يحسن القراءة: أسمعت الخبر .. إن الحكومة رصدت لمن يدل علي ألف جنية ولمن يدل عليك خمسة آلاف جنيه فسكت الخادم عن الضجر وتبعه كما كان ..
قبض عليه بعد تسع سنوات من الهرب ونفي إلا أنه عاد أوائل حكم (الخديوي عباس) وكان شابا متحمسا لمصطفى كامل .. وأنشأ بعد عودته مجلة (الأستاذ) التي هي أساس هذا الحديث ..
نفي بعدها مرة أخرى. ومات في منفاه سنة 1896 بعد أن تمكن الشيخ محمد عبده وبعض محبيه من اقناع الخديوي السماح له بالعودة.
صدر العدد الأول منها يوم 6 يونيو سنة 1881 في حجم كتاب عادي (وطنية أسبوعية أدبيه هزلية) وهي مجلة كما يقول: هجومها تنكيت ومدحها تبكيت ولغتها لا تلجئك إلى قاموس الفيروزبادي ولا تلزمك مراجعة التاريخ ولا نظر الجغرافيا، وسخريتها نفثات صدور وزفرات تصعدها مقابلة حاضرنا بماضينا) وهي في مجموعها مقالات اجتماعية عن الحياة في مصر وثال أيضا: (إنه لا يريد أن تكون ممتنعة بمجازات واستعارات ولا مزخرفة بتورية واستخدام ولا مفتخرة لفخامة لفظ وبلاغة ولكن أحاديث تعودناها ولغة ألفنا المسامرة بها ..
وما نلاحظه فيها ما يلي:
• كانت المقالات التي تهتم بالخاصة تكتب بلغة فصحى والمقالات التي تهتم بالعامة تكتب باللغة العامية.
• كان معنيا بالإصلاح الخلقي والاجتماعي وقد فطن أن التعليم والنقد عن طريق القصص أجدى للنفس
• دعا إلى إصلاح الخطابة المنبرية لأن انحطاطها من أسباب غفلة الشرق
• كانت المجلة تنقسم إلى قسمين في العادة .. السخرية من عادة من العادات في أولها وحكاية لاذعة ونقد وتوبيخ للمتمسكين بهذه العادة ..
• كانت الموضوعات التي طرقها في أكثرها تمس المجتمع المصري والقليل منها ما كان سياسيا.
تحولت الجريدة السابقة إلى جريدة الطائف وكان النديم معنيا فيها بالدرجة الأولى بالثورة العرابية .. وزادت المقالات السياسية فيها وكانت ذات طابع ثوري وقد بذّت الصحف الشهيرة في ذلك الوقت (الأهرام , المفيد , الفسطاط , السفير، الجناح) .. وكانت إلى جانب ذلك صحيفة خبرية حتى إن صحفا أخرى كانت تنقل عنها أخبارها السياسية لاتي تنشرها ولحدة لسانها وشدة ثورتها قام الشيخ محمد عبده (رقيب المطبوعات العربية والتركية) بتعطيلها شهرا .. لكن مجلس النواب برئاسة محمد سلطان باشا (والد السيدة هدى شعراوي) قد تعاطفوا معها وسعوا في فك هذا المنع ..
كان نهج الطائف هو الصراحة بعيدا عن الكناية والرمز وكتب فيها النديم أعنف مقالاته ودعا فيها إلى الإصلاح النيابي في مصر وحفلت ببحوث قيمة عن الفلاحين وما انتهو إليه من بؤس ..
الأستاذ:
بعد عودته من المنفى في المرة الأولى أصدر جريدة (الأستاذ) باسم أخيه وصدر العدد الأول في أغسطس سنة 1892 وكانت في حجم التنكيت .. بلغ عدد مشتركيها في ذلك الوقت من مصر 860 ومن الخارج 1780 وكانت تطبع 2840 نسخة وكانت مليئة بالأزجال والمناظرات والمقالات المطولة ..
كان يصدر معها ملحقا اسماه ((كان ويكون)) وضعه على نمط قصص وهو خلاصة ما كان يدور بينه وبين صديق فرنسي له وأغلب الحديث في أصول الأديان الثلاثة وتاريخها وبعض الآراء السياسية.
وكانت كسابقاتها مقالات كتبت بالفصحى وأخرى بالعامية
مما كتب للفلاحين
الزارع: عاوز ميت جنيه بالفرط يا سيدي (بالفرط يعني بالفائدة)
التاجر: فرط المية عشرين كل سنة
الزارع: اعمل اللي تعمله
التاجر: شيل عشرين من المية يبقى كام
الزارع: لهو أنا كاتب شوف يتفضل كام؟
التاجر: يبقى سبعين
الزارع: يدوب كدة
التاجر: دلوقت صار لي ميت جنيه ضم عليهم العشرين واكتب الكمبيالة
الزارع: اكتب وخد الختم ..
وفي وسط السنة قدم الزارع عشرة فناطير قطن وعشرة اردب سمسم وعشرين من القمح وثلاثين من الفول وأربعين من الشعير وجاء يحاسبه فكانت الحكاية كما يلي:
الزارع: طلع لي ورقة الحساب يا سيدي
التاجر: انت جبت قطن بعشرين جنيه وقمح بعشرين جنيه وشعير بعشرة جنيه يبقى كام
الزارع: ما قلت لك انا مبعرفش احسب .. قول انت
التاجر: الباقي تسعين وفرطهم عليهم عشريت يبقى مية وخمستاشر طالب انت كمان ثلاثين يبقى ماية وستين ضم عليهم اربعين فرط يبقى الكمبيتلة تنطتب بمائتين وعشرة ونصف
الزارع: هوا ايه .. من الأصل سبع عشرات وعشرين وجالهم ثلاثين شلت منهم تمن البتوعات دول يبقى لك ميتين وعشرة بس .. النص دا جيبتو منينن ...
التاجر: النص دا اجرة كتابتي ..
الزارع: آه دلوقتي صحت الحسبة. والسنة دي أبيع لك خمسن فدان في عشرة جنيه يبقى لك ايه بعدها يا جنيهين يا تلاتة. خد لك بيهم جاموسة .. ويبقى على راي المثل شيل دا عن دا يرتاح
ثم علق على هذه الحكاية فقال .. قال النبيه للتاجر: أما تتقي الله في هذا المسكين أخذت محصوله وصار دائنا لك فلففت له حسبة لا أصل لها وجعلته مدين والحسبة هكذا .. 70 بفائدة 20 فالمطلوب 84
وقد أورد لك 15 قطن بسعر 2 جنيه للقنطار ب 30 جنيه الخ .. والمجموع 125 جنيه .. يكون له عندك 41 جنيه فكيف جعلته مدينا ب 210.5 ..
وانظر للفلاح اللي عامل ناصح (وهو لا يعرف الكتابة ولا الحساب وشك في النصف ولم بعلم أنه غرر به)
من شعره:
إليكم يُرَدُّ الأمر وهو عظيم ... فإني بكم طول الزمان رحيم
إذا لم تكونوا للخطوب وللردى ... فمن أين يأتي الديار نعيم
وإن الفتى إن لم ينازل زمانه ... تأخر عنه صاحبٌ وحميم
فرُدُّوا عنان الخيل نحو مخيم ... تقلبه بين البيوت نسيم
وشدوا له الأطراف من كل وجهة ... فمشدود أطراف الجهات قويم
إذا لم تكن سيفاً فكن أرض وطأة ... فليس لمغلول اليدين حريم
****
أتحسبنا إذا قلنا بلينا ... بلينا أو يروم القلب لينا
نعم للمجد نقتحم الدواهي ... فيحسب خاملٌ أنا دُهينا
تناوشنا فتقهرنا خطوب ... ترى ليث العرين قرينا
سواء حربها والسلم إنا ... أناس قبل هدنتها هدينا
إذا ما الدهر صافانا مرضنا ... فإن عدنا إلى خطب شفينا
لنا جلد على جلد يقينا ... فإن زاد البلا زدنا يقيناً
ألفنا كل مكروه تفدى ... له فرسانه بالراجلينا
فأعيا الخطب ما يلقاه منا ... ولكنا صحاح ما عيينا
سلينا يا خطوب فقد عرفنا ... بأنا الصلب صلنا أو صلينا
وقرى فوق عاتقنا وقولى ... نزلت اليوم أعلى طور سينا
علينا للعلا دين وضعنا ... عليه الروح لا الدنيا رهينا
فهل يمسى رهين في سرور ... وهل تلقى بلا كدر مدينا
إذا ما المجد نادانا أجبنا ... فيظهر حين ينظرنا حنينا
يغنينا فيلهينا التغني ... عن الباكي وينسينا الحزينا
ولسنا الساخطين إذا رزئنا ... نعم يلقى القضا قلباً رزينا
إذا طاش الزمان بنا حلمنا ... ولكنا نُهَينا أن نهينا
سلوا عنا منابرنا فإنا ... تركنا في منصتها فطينا
لحكمتنا تقول إذا هذرتم ... ألا هبي بصحيتك فاصبحينا
سرى فينا من الآباء سِرٌّ ... يسوق البر نحو المعوزينا
فإن عشنا منحنا سائلينا ... وإن متنا نفحنا الزائرينا