هامة الغسق أسياف أنوار وأضواء. واستراح الماء والهواء. وأخذ أعين الكواكب الأغفاء. ولا راحة لي ولا هدوء وأين الراحة ممن راح بين قلب هائم. ونفس دائم. وشجو دخيل. وحرقة وغليل. قلت في نفسي أولا يرجع الله هذا الروسي إلى هنا؟ أما والله لو عاد!.

وقد عاد وحانت مني التفاتة إلى اليمين فإذا على بعد مني جرم طويل أسمر قد قذفته كف الموج الخرقاء على الشاطيء فتأملته فإذا هو قاربي قد عنف به البحر ورضه التيار. وعلى مسافة منه شيء مبهم الهيئة مشكل الشكل يجيء ويذهب في وشل بحافة الماء قد اختلط بعشب البحر وحصبائه فعرفت فيه لأول وهلة الرجل الروسي مكبوباً على حُرّ أوجهه جسداً بلا روح فخضت إليه ذلك الضحضاح فسحبته إلى اليابس ثم قلبته فإذا هي تحته قد التفت حولها ذراعاه الهامدتان وحالت جثته بينها وبين الزوبعة التي كانت تثور بالفضاء وكأنما ليس في طاقة البحر العنيف أن يسلبه تلك الفتاة وإن سلبه روحه. وكان فيهما أمارات تدلني على أن هذه الصبية الطائشة الرأي قد علمتها أهوال تلك الليلة المهيبة أن تفهم الفضل في أهله وتفطن إلى المروءة في أربابها وتستشف القشر الخشن عن اللباب الدمث والظاهر الوعر عن الباطن السهل. وأن تميز الصادق من الخلّب والحق من الغرور والزلال من السراب. وأن تعرف قدر ذلك القلب الكبير الذي وقاها في الروع بمهجته. وذاك الساعد السلط الذي حماها في الكريهة بصولته. وإلا فما معنى توسد رأسها اللطيف مهاد صدره الرحب والتفاف فرعها الأصهب بلحيته المنسدلة؟ وما معنى ضياء تلك الابتسامة المتألقة في صحيفة وجهه - يضحك في أثنائها فم النصر - التي لم يك في طاقة الموت أن يطفي رونقها ويخمد سناها؟ رحم الله مصرعه لقد كان الموت والله له أمتع من الحياة وأشرق جانباً وأبرد ظلاً وأصفى هواء. وأخضل الله ترابه لقد كانت حياته موتاً وكان موته حياة.

وجاءت العجوز فلحدنا لهما على سيف البحر الشمالي وواريناهما فهما الآن رهنا حفرة بذلك المكان المقفر الجذب والبقعة الحزينة الصماء. وكم أمور ستحدث حولهما بهذا الكون وكم شؤون ستجري فمن دول تهدم ودول تشاد. وعاد تزول وتجيء عاد وأجداث تبيده وأجداث تباد. وهما بمعزل عن كل ذلك لا ينظران ولا يسمعان. ولا يعبآن ولا يحفلان. ولكنهما ملتزمان محتضنان. بتلك القفرة تحت ذلك الموج المرنان. وكم خيل إليَّ إن

طور بواسطة نورين ميديا © 2015