عنه باعنا ويفوت مبلغ ذرعنا ولا بد لنا كي يتمثل مثل هذا الرجل لعالم تصورنا من رؤيته وقد بلغ كماله والإحاطة بأمياله ومراقبته في تقدمه وتعقبه في طريق نموه أي لا بد لنا من معرفة الرجل الطبيعي واستطلاع طلعه وهذا كلام سيحيط القارئ بجملته وتفاصيله بعد الفراغ من قراءة هذا الفصل. وقد آن لنا أن ننظر فيما ينبغي علينا فعله لنظفر بهذا المخلوق النادر فاعلم أن علينا واجبات جمة شتى جلها ينحصر في أن لا نفعل شيئاً وأن لا ندع شيئاً يفعل فإن الملاح إذا ركب ظهر البحر في ريح رخاء وأراد أن ينساب مع التيار انسياب الحُباب فليس به إلى الحذق والمهارة حاجة كبيرة فإذا التطمت الأمواج واصطرعت كتائب الماء فإن السلامة في أن يلقى الملاح خيرزانته والحزامة أن لا يكافح معتلج الأذى فإياك إياك أيها الملاح أن توكل بسفينتك الأرواح وتتركها رهن الأمواج وتلقى أزمتها إلى أيدي التيار فيلتهمك طامح اليم وتطوح سفينتك في مهاوي العباب.

وفي الدائرة الاجتماعية حيث لكل منزلة معلومة ينبغي أن يربى كل امرئ لمنزلته فإذا ترك أحد مكانه الذي أعدّ له فليس بصالح لسواه فالتربية لا عائدة فيها إلا إذا كان السعد ألفاً للأب في وظيفته والزمان مساعفاً والأيام مسالمة فأما فيما عدا ذلك فهي ضارة بالطفل ولو كنا في مصر حيث يتوارث الأبناء وظائف الآباء لهان الخطب ولقلنا قد عرف كل امرئ آخرته ومصيره ولكنا في بلاد أهلها يتغيرون ومراتبهم ثابتة على حالها الأولى ولست أدري إذا أعد الرجل بنيه لمرتبته الاجتماعية أهو ناظر في ذلك إلى صالحه أم صالحهم؟

ولكن الناس متساوون ووظيفتهم المشتركة هي الرجولة فمن حسن إعداده لها فهو خليق أن ينهض بما يحمل وينفذ فيما يندب له وليس يعنيني أن تلميذي أميل سيكون في مستقبل أيامه عاملاً في الجيش أو الكنيسة أو القضاء فإن الطبيعة قد أغفلت عمل أبويه ودعته إلى الاضطلاع بواجبات الحياة البشرية وما كنت لأعلمه من ضروب التجارة إلا كيف يعيش ولست أنكر أنه لا يكون بعد نفض يدي من تأديبه قاضياً بمعنى الكلمة أو جندياً أو قسيساً ولكنه سيكون رجلاً قبل كل شيء وأنه لحقيق بعد ذلك أن لا يتعاظمه أمر ليس يعجز سواه ومن كان كذلك فليس بضائره مرَّ الليالي وانتقال الأحوال.

وأولى العلوم بتوجهنا إلى تحصيلها وانقطاعنا لطلبها هي درس الحياة وتعرفها فإن أحسن الناس تربية هو عندي أردهم لنفسه على محبوبها ومكروهها وأجلدهم على مضّ الحياة

طور بواسطة نورين ميديا © 2015