الثامنة عشرة من العمر. ولما ثارت البروتستانتية ثورتها في وجه البابا مزقت شمل النظام الأوروبي وهدمت بنيانه وبددت سلسكه وحلت عراه ولا سيما أواصر الوحدة الألمانية الصادقة بإلغاء دينها المشترك. فقضى على هذه الوحدة وما زالت مقضياً عليها حتى أتاح الله من عوضنا منها - لا أقول خيراً - ولكن شراً - أعني بذلك ما قد أقامته السياسة على أنقاض الوحدة الدينية المتينة القوية الرصينة بعد انقراضها بأزمان من تلك الوحدة الحالية التي هي محض سياسية وبحث اصطناعية. وبعد كل ما سردته لا أخالك تشك في شدة الارتباط الكائن بين الوحدة الدينية في الشعوب وبين حسن النظام وصلاح غيره من الشؤون الدولية والأحوال الاجتماعية. فهذه الوحدة لا تزال في كل زمان ومكان عماد الشرائع والستور أي أنهما قاعدة النظام الاجتماعي الذي لا يكاد يقوم على أساسه ويعتدل في نصابه إلا أذا استمدت الحكومة قوة وتأييداً من جانب الدين واستمد الملك الحاكم فخامة وأبهة زجلالاً.

الفيلسوف - حسن جميل الحق ما تقول، أجل إن الملوك ليعدون الله عفريتاً يخوفون به الأطفال الكبار الشيب ويدفعونهم باسمه الرهيب إلى فراشهم حينما تعوزهم وسائل الإرهاب والإفزاع. ومن ثم شدة اعتمادهم على الله. فأما وقد ألغيت خطة التعذيب والتنكيل ونصيبهم من الخوازيق والأوتاد وصارت في خبر كان فقد أصبحت تلك الخطة في سياسة الأمم وتدبير الشعوب باطلة ملغاة عديمة الأثر والمفعول. ولتعلم أن بعض الديانات هي أشبه شيء بالحباحب لا تضيء إلا في الظلام فالجهل العام شرط أساسي لصولة الأديان ونفوذها وهو النصر الوحيد الذي ليس إلا فيه يستقيم أمرها ويقوى شأنها. فإذا بزغت في أفق الحياة كواكب العلم على اختلاف أشكالها بين تاريخ وجيولوجيا وطبيعيات وفلك فبثت شعاعها وأفاضت نورها على أرجاء العالم وأنحائه وإذا ما استطاعت الفلسفة بعد طول الاحتجاب والاحتباس أن ترفع عبقريتها وآرائها ومعتقداتها فقد آن إذ ذاك أن تنهار أركان الأديان المبنية على الخوارق والمعجزات وتنقوض دعامها فتهلك وتبيد ووترك مكانها للفلسفة أحكامها. وقد لاح فجر العلم والعرفان وانصدع عموده في القارة الأوروبية في أخريات القرن الخامس عشر بقدوم الفلاسفة اليونان الحديثين ثم ما لبثت شمسه أن ارتفعت وأتلع ضحى ذلك العلم والعرفان ومتع نهاره أثناء القرنين السادس عشر والسابع عشر الخصيبين

طور بواسطة نورين ميديا © 2015