وأعجب ما أدهش الأخوين عكوفها على قصرية النعناع كاسفة البال سيئة الحال. واخضرار تلك الريحانة ورفيف ورقها والتفافه كأنما يمسه ساحر بعصاه. أو يقوم نفر من الجن بريه وسقياه. أجل لقد أفرط عجب الأخوين لهذا الأمر الغريب وتساءلا ماذا عسى أن يكون. وقال أحدهما للآخر: لا والله إن لهذه القصرية لنبأ وشأنا. ولولا أن هذه الريحانة تنطوي على سر كميت لما كان لها كل هذا الأثر في نفس إيزابلا ولا استطاعت أن تصرفها عن شؤون الحياة كلها. وتنسيها الدنيا بأسرها. وتستلها من محاسن جمالها وشبيبتها. وتبتزها من مباهج متاعها ولذتها. بل تنسيها حبيبها وسيرته وعهد غرامه وذكرته.
فأخدا يرصدان غفلة عينها عن ريحانتها ليسجليا غامض شأنها وقصتها وأدمنا الرقبة ولكن دون جدوى. وكيف والفتاة أبداً على الريحانة عاكفة. وغيوث عبرتها لا تنفك وكفة فهي لا تخرج إلى متنزه ولا تسير إلى متنسك ولا تسعى إلى ملهى أو مقصف. ولا تذهب إلى معهد أو متحف. فإذا قامت إلى أمس حاجاتها عادت إلىالريحانة بأسرع مما تنقلب الحمامة إلى صغارها فتلزم جانب القصرية لزوم الدجاجة بيضها ثم لا تزال تبكي على ذخيرتها المدفونة وتسرق الدمع في فروج شعرها.
ولكنهما استطاعا مع ذلك كله أن يسرقا القصرية ويفحصاها في مكان مستور وكذلك بدت لأعينهما الدفينة الشنعاء كأبشع ما لاح لعين مخلوق وبالرغم من عبث البلى بتلك النبيشة وعيث الفساد وعفاء تلك المعالم وانطماس هاتيك المعارف أيقنا أنها رأس لورنزو.
فلما وقع في أيديهما أثر جريمتهما وعنوان جنايتهما غادرا مدينة فلورنسا في طرفة عين إلى حيث لم يعودا آخر الدهر. أجل. فر المجرمان إلى منفاهما وفي عنقيهما دم الجريمة.
أسراب الهموم وطوائف الأحزان! أزوى وجوهك عن هذا المشهد الأليم! ويا نغمات الموسيقى الرخيم اسجعي جزعاً وكمدا واهتفي ولوعاً ووجدا. ويا صدى عالم الأرواح ثر من مكامنك الخفية فأرسل زفرات العناء وأنفاس الصعداء ويا ملائكة الحزن والأسى نوحي واندبي سجناً على إيزابلا. فقد أصبحت هامة اليوم أو غد، ستموت أحزن ميتة وأكمدها إذ سلبها أخواها آخر أرماق الحياة وفصما آخر عروة كانت تربطها بهذا الوجود - قصرية النعناع.