أصبحنا اليوم جميعاً نباتيين، نعيش أكثر غذائنا الخضر والبقل، فإذا أقبلت الساعة الأولى من المساء نفخ في الصور مرة أخرى فهرع الجميع إلى الطعام، وإذ تدق الساعة العاشرة من المساء تطفأ الأنوار والمصابيح، ويذهب كل إلى مضجعه، وكذلك نعيش سوياً في إخاء تام، الكاتب بجانب الكناس، والسمكري بجانب الصيدلي، أما الرجال فيسكنون في الأبنية القائمة في هذا الجانب من المدينة، وأما النساء ففي الناحية الأخرى.

قلت: وأين يسكن إذن الأزواج؟

فأجابني: لا أزواج بيننا ولا زيجات، فقد أبطلنا الزواج منذ مائتي عام أو تزيد فإن العيشة الزوجية لم تنجح معنا البتة وألفينا الحياة البيتية نقيضة الاشتراكية، لأن الرجال في شغل إذ ذاك بأزواجهم وعشائرهم عن التفكير في الأمة، وكانوا يجنحون إلى العمل والدأب للإجداء على أحبابهم القلائل ونسوا صالح المجموع، واحتفلوا بمستقبل أصبيتهم وذراريهم أكثر من احتفالهم بمستقبل الإنسانية العامة، وكان من روابط الحب والدم أن جعلت في الناس عشائر وأسرات صغيرة، ولم تؤلف بينهم فتجعلهم جميعاً عشيرة واحدة وأثار الحب رذيلة الطمع في قلوب الناس، فلكي يظفروا بابتسامات النساء اللاتي يحبونهن، ولكي يتركوا وراءهم اسماً مذكوراً وأحدوثة طيبة يحملها أبناؤهم من بعدهم، تدافع الناس جميعاً وراء البحث عن السمعة والرفعة، وكان دأب الرجال أنهم إذا أحبوا امرأة حسبوها أسمى من أية امرأة سواها وأعلنوا ذلك على رؤوس الأشهاد، واعتقدت البعولات أن أزواجهن أسمى وأعقل وأروع من أزواج غيرهن، والأمهات يؤمنّ بأن أبناءهن لا يدانيهم في الفضل والحسن أحد، وتعلم الأطفال من آبائهم أن أمهاتهم وواديهم هم أفضل الأمهات، وأعظم الوالدين، في العالم كله.

وكذلك رأينا الأسرة من كل وجه عدوة المساواة ورأينا في الحي الواحد الرجل يعيش في ظل زوجة حسناء فاتنة وله ولدان جميلان، وفي البيت المجاور لداره رجل يبني بامرأة دميمة وقاح، تخرج له ذراري سوء، بالعشرات، فهل كنت ترى ذلك في شيء من المساواة.

ثم لا تزال الأسرة قائمة، يرفرف عليها ملك الأحزان وملك الفرح، فإذا أدجنت السماء، وأرخي الليل سدوله، ألفيت زوجين مكدودين ينتحبان في الكوخ، وفي الناحية الأخرى من المدينة يخطر حبيبان يضحكان من آلام الناس، ويرتشفان كؤوس النعمة والحب.

وكذلك رأينا الحب عدونا اللدود، لأنه قتل روح المساواة، وجاء إلى العالم بالألم والفرح،

طور بواسطة نورين ميديا © 2015