نزوة من نزوات جنونه شيئاً من الحكمة أو على الأقل شيئاً يمكن من بعض الوجوه أن يسمى في باب المنفعة الإنسانية حكمة.
ولقد كان الفقر عريان يوم كان آدم في الأرض وليس عليه إلا ما خصف من ورق الجنة وعاش دهراً تحت السماء يلبس من ضياء كل كوكب ويمرح في ثياب بيضاء من أشعة القمرين إذ لم يكن يعرفه أحد بعد ولا استطربه سماع السوء في الأحياء، بل كان عنصراً مجهولاً في غيب الطبيعة. ولم يكن لهذا الإنسان يومئذٍ من المعاني الفقرية. . . غير شعور طبيعي لا زيغ في تأويله عن الطبيعة وهو شعور المعدة القوية المعصوبة التي لا تحتمل الشعر والخيال وفنون الكذب العقلي ولا تشعر إلا لتطلب ولا تطلب إلا ما تجد، ومتى وجدت وإنطفأ نهمها فليس إلا قوة الجسم وانبساط النفس وحمد الله في كل ضرب من ضروب الجمال في الخليقة.
ثم كانت عداوة ابني آدم إذ قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر، وفتحت الصفحة الأولى من تاريخ الدم الإنساني في الأرض فكان البغض أول سطورها وجاء من بعده الفقر وخطت بعد ذلك سطور وسطور كلها يلتقي إلى هذين المعنيين. يومئذٍ عرف هذا الفقر وأصبح يتلبس في كل إنسان بمعنى يلائمه إذ لم تعد الحياة هي الحياة بل الوسائل التي يدفع بها الموت ومنها الموت نفسه، فصار البغض وسيلة والحسد وسيلة والطمع وسيلة والقتل وسيلة وكل ذلك لأن الإنسان فقير بمعنى من معاني الفقر وما البغض إلا فقر من المحبة ولا الحسد إلا فقر من الثقة ولا الطمع إلا فقر من الرضا ولا القتل إلا فقر من القتل.
وإن أردت العجب فاعجب لهذه الطبائع الإنسانية إذ يحاول كل امرئٍ أن لا يفهم من معنى الفقر إلا ما يمكن أن يجريه على الناس كافة حتى هو وحده المبتلى في نفسه الممتحن في سعادته وحتى يجد مادة العزاء من حيث التمسها.
فالفقر على ذلك هو العوز إلى المال، وهذه بلية عليها يحيى الناس وعليها يموتون. ولقد كان الفقر قبل أن يكون المال ثم وجد المال فما منع أن يلتقي أهله الأغنياء من هموم الدنيا وبأس الحياة ما لو استطاعوا لافتقدوا من عذابه بكل ما في أيديهم ولو أن لهم طلاع الأرض، ذهباً ووجدنا المال فما منع الفقراء أن يخولهم الله من رحمته التي لا تفارقهم