الهرب، فيتقهقرون أمام الجنس الأبيض آخذين ثأرهم من أرباب الأراضي الذين هم أضعف حولاً وأوهن صولاً، يلقونهم بمثل ما لقوا من البيض المستعمرين، إلا أن أوربا لا تزال تنتج في كل جيل فضلة من الخلق المهاجرين فيرتفع بسبب الفيض الجديد عباب الاستعمار في بحاره، وتسمو عقب اليسل الأخير غوارب ذاك الزاخر الخضم في تياره، فيندفع متدفقاً في الأقاليم الحارة من أقطار الأمم الملونة مقترباً من خط الاستواء، وكذلك لا تلبث هذه الأمم أن تهلك فتفنى، على أن اندفاع الرجل الأبيض بعامل الجوع إلى خوض أحشاء الأقاليم الحارة واصطلاء جمرة القيظ في بقاع خط الاستواء ونزوله تلعات منابع الكونغو وضفاف الأمازون والجانج وهلاك الرجل الأخير من همج تلك الأحراج والأدغال تحت وطأة الأبيض ربما لا يكون إلا بعد مضي آلاف من السنين على أنه مهما تأخر أمر لا بد منه.
أفبعد ذلك تثبت الدنيا على حال لا تتغير؟ أيقف نمو الإنسانية وارتقاؤها؟ كلا إن تاريخ الدنيا دائم السير والحركة، وهو يجري متغلغلاً في ظلمات المجهول وغياهب الغيب، بل سيستمر الجنس الأبيض بعد وراثته الأرض واستئثاره بالدنيا على الرقي والنماء في أوطانه الأصلية بأوربا وفي المنطقة المعتدلة من سائر قارات الكرة، وسيتمادى في الازدياد والتكاثر ولا يزال يخرج له نسل يبتغي تحت ظل السماء مقيلاً، وفي مذاهب الأرض سبيلاً، وعلى خوان خيرات الله موضعاً، ولدى منهل اللذات مشرعاً ومكرعاً فعلى ممر العصور لا تزال تنشأ هنالك ضرورة الهجرة عن الأوطان وانسلاخ بعض الشعب والفروع عن أصولها، غير أن في هذا الحين لا يبقى على أديم الأرض شعوب منحطة يسهل اقتلاعها وإبادتها ويكون افناؤها غير مشفوع بالألم الحاد الذي لا بد أن يصحب اعتداء الرجل على أخ وصديق، فحيثما حللت من الأرض وجدت صوراً واحدة وأشكالاً واحدة، وفي كل بقعة لغات بعينها وآراء بعينها، وأخلاقاً متماثلة، وعادات متشاكلة، وفي كل مؤطئ قدم قام رجل من الأمم البيضاء فسجل على الثرى حق الملكية بأخاديد المحراث المشرفة وحفائر الفاس المقدسة فأين يذهب المهاجرون؟ وماذا تصنع المقادير بباقي السكان في أقدم مواطن الحضارة؟ أقول أنه لا يزال هنالك قانون فعال طبيعي يتقدم لتفريج هذه الغمة وتنفيس تلك الكربة، ذلك أن ذرية الجنس الأبيض التي نزلت عند خط الاستواء أو قرابه