الورقة الأخيرة
عبد القادر حامد
هل كان الغرب ينتظر هذه النتيجة: انهيار وانهزام الشيوعية كنظام؛
ومصير الاتحاد السوفييتي إلى بوابة المجهول؟ هذا ما هو مشكوك فيه ولم يكن
أكثر المحللين والمؤرخين دقةً يصل إلى توقع ما وصلت إليه الأمور هناك، ولعل
في هذه النهاية عبرة لمن يريد أن يبني نظاماً على فلسفة الكذب.
إن العقيدة الشيوعية اتخذت من الكذب أساساً تقيم عليه تصورات، ووسيلة
تثبت بها أركانها في حياة الناس ولا شك أن ما بني على باطل فهو باطل، وهو -
وإن غرّ كثيراً من الناس بمظهره وتزويقاته وألاعيبه - سيصل إلى نقطة يتعذر
عندها الاستمرار، وسيقف ثم يسقط. وهذا بالضبط ما حصل في دول أوروبا
الشرقية وفي الاتحاد السوفييتي. فآلة الدعاية استنفدت أغراضها، فماذا ينفع الشعب
القول له: إنه عظيم، وإنه جبار، وإنه دولة قوة عظمى، وإن جيشه يعد كذا وكذا
ومسلح بكيت وكيت من أسلحة الدمار النووية ومن الصواريخ العابرة للقارات وهو
شعب جائع، عارٍ، مقهور محروم من أشياء يراها عند غيره من الشعوب، قربتها
إليه وسائل الاتصال، يراها كالأحلام، وتصل حقائقها إليه عبر الحقائب السوداء،
والأسواق السوداء، فلا يستطيع عنها صبراً، وكيف يصبر؛ وقد استمرت
(الاشتراكية) تلح عليه ليتخلى عن عقيدة الصبر التي غرسها في وجدانه
«الإقطاعيون والبورجوازيون ورجال الدين!» ثم بعد ذلك تكتشف هذه الجماهير
المضللة أن الذين يتقلبون في ثمار البورجوازية والإقطاع هم «مبشرو الشيوعية»
أنفسهم: فهم تجار السوق السوداء، وتجار الحقائب: دبلوماسية وغيرها، وهم
اللذين يتشدقون بألفاظ واصطلاحات مثل: «الطهر الثوري» و «المناقببية»
بينما هم يعيشون أضدادها، ويتضمخون بنجاساتها.
قد يمكن لأنظمة صغيرة العيش في ظل سياسة الكذب، ولكن القوى الكبرى لا
تستطيع ذلك، وذلك لأن الأنظمة الصغيرة - عادة - ما تنبري قوى أكبر منها
تسندها، لأن في إسنادها ضمانة لمصالح هذه القوى أو بعضها، ولهذا فإن كيانها لا
على الكذب الخالص؛ بل على مصالح حقيقية، سواء كانت هذه المصالح مكشوفة،
أو مستترة. ولكن من ذا الذي يستطيع أن يسند نظرية كذبها العقل قبل أن توجد،
وكذبها الواقع بعد أن أوجدت؟ ! من ذا الذي ينفخ الحياة في جسم ميت؟ !
وكذلك فإن الكذب على بضعة ملايين أسهل منه على عشرات الملايين،
والكذب المنوّع أرجى للقبول من الكذب ذي اللون الواحد. فلو نظرنا إلى الأهداف
التي من أجلها يكذب ويتكاذب [1] الناس خلال سبعين سنة (وهي عمر الشيوعية
العقيم) في مجالين: العالم العربي، والبلاد التي شاعت فيها هذه العقيدة؛ لهالنا
تنوع الأهداف في المجال الأول؛ وتفردها وجمودها في المجال الثاني. فمثلاً في
المجال الأول نجد غنى وتنوعاً في هذه الأهداف: التحرر وطرد الاستعمار،
الدخول في العصر الحديث، رفع راية الإسلام، رفع راية القومية العربية، الوحدة
العربية، تحرير فلسطين، بناء المستقبل، تحرير الأرض، إزالة آثار العدوان،
الصمود والتصدي، التوازن الاستراتيجي، السلام القائم على العدل، السلام،
الوفاق، ... الخ ... أما في المجال الثاني: فهو هدف واحد يبدأ من البروليتاريا
وإليها يعود، ويدور حول البيان الشيوعي وأسطورة وحدة عمال العالم ووحدة
العمال والفلاحين.
ما أغنانا بالأهداف والأساليب!
وما أفقر الشيوعية والشيوعيين.
ولا عجب! فأرضنا مهد الحضارات، ونحن أساتذة العالم! أليس كذلك؟ !