مقال
كان دعاة القومية والعلمانية في أوائل هذا القرن يضغطون باتجاه إقامة نظام
الدولة على أساس تجاهل النزعة الدينية، متخذين من ضعف الدولة العثمانية وفساد
مؤسساتها أدلة على وجوب تنحية الدين أن يكون عاملاً له أهميته في بناء الدول
وحياة الأمم.
ومن أبرز دعاة هذا الاتجاه ساطع الحصري الذي يشكل مجموع آرائه مرجعاً
لدعاة القومية والعلمانية، وعلى الرغم من صيرورة معظم هذه الآراء موضع شك
من خلال التطبيق؛ إلا أن القيمين الذين ورثوا آراء الحصري لا زالوا في ضلالهم
القديم، ولم تفدهم الحوادث ووقائع التاريخ الحديث عبرة، وهذا (مركز دراسات
الوحدة العربية) يشرف على إعادة طباعة مؤلفات ساطع الحصري تحت عنوان: (سلسلة التراث القومي) .
وهذا المركز على الرغم من أنه يعلن من جملة أهدافه أنه: (يهدف إلى
ايصال نداء الوحدة للجماهير العربية والأوساط الفكرية على تعدد اتجاهاتها) - إلا
أنه يتبنى الوجهة القومية والعلمانية التي كان يؤمن بها ساطع الحصري بحذافيرها،
ولم نجد له ما يناقض ذلك سوى إحساس باهت بفشل كثير مما طرحه أنصار تلك
الأفكار؛ ولذلك فإنه تبنى إقامة عدة ندوات اشترك فيها أصحاب الاتجاه القومي
والعلماني ومن انتقاهم ممن يتحدثون عن الإسلام وبالإسلام. ولكن المراجع لهذه
المناقشات يكتشف بسهولة ويسر أين يقف هذا المركز وما هي الأفكار التي يروج
لها.
وقد يظن ظان أننا ضد شيء يسمى الوحدة العربية، وهذا وهم يؤمن به من
يجهل الحقيقة أو من يقصد تشويه السمعة والتلاعب بالعواطف. فإذا كان هناك
فريق يرى الاتحاد ونبذ الفرقة أصلاً من أصول العقيدة لا مبدأً ثبت بالتجربة
البشرية فائدته فقط فهم المسلمون، ولكن الخلاف هو حول الأساس والرابطة التي
تجتمع عليها هذه الشعوب التي توالت على حكمها جهات مختلفة، فبينما يذكر
القوميون عناصر اختاروها ليؤكدوا على أهميتها ويتجاهلون الدين كعامل أساسي في
هذا المجال، بحجة أن الدين يفرّق والقومية تجمّع، وهذا القول يقصد به إهمال
دين الأغلبية، وتحييده أن يلعب دوره الطبيعي في الحياة، وإلا فإن كثيراً من
هؤلاء - مع إعلانهم وتوكيدهم هذه المزاعم - لا يهملون أديان الأقلية، بل يُولُونها
كل التقدير والاحترام ويعطونها ما لها وما ليس لها من التجلة والتبجيل، بل إن
الهجوم القولي والعملي على دين الاغلبية يصب في مصلحتها وينعكس امتيازات
وتقوية مركز لأتباعها.
واللوم لا يتوجه إلى أتباع أي دين أن ينصروا أهل دينهم، ويقفوا إلى جانبهم
في السراء والضراء - فهذا شيء طبيعي - ولكنه يتوجه إلى من يتنصل من دينه
وينخلع منه إرضاءً لمن يبقى في قرارة نفسه وفياً لمبادئه ينصرها بالحق والباطل،
إن هذا الضرب من الناس يتحول إلى عدو شرس يذيق أبناء جلدته المر، ويسومهم
أنواع النكال ولا يشفي غليله إلا أن يصبحوا مثله في إهمال دينهم والحملة عليه،
وكل ذلك من أجل إرضاء (إخوانه في الوطنية!) فيغيظ الألوف المؤلفة ويقطع
أواصره معهم من أجل حفنة يحرص على رضاها والحصول على ثقتها، وليس
بقادر على ذلك مهما فعل. هذا هو منطق القوميين الأعوج الذي يتجاهل التاريخ،
ويناقض الفطرة البشرية.
إن القوميين - في غلوائهم لإثبات آرائهم - يدوسون الحقائق، ويغمضون
أعينهم عن الوقائع الناطقة التي قد تخرس تكلفاً لا طبعاً، إن الإنسان ناطق بطبعه،
وقد يعرض له ما يعقل لسانه فيمنعه من الكلام، فهو في هذه الحالة أبكم لمن يراه،
ولكن الناظرين إليه يتمايزون فئتين:
فئة ترى أنه أبكم طبعاً.
وفئة ترى أنه كذلك لعارض عرض له.
وهذا هو مثل يوغوسلافيا. فقد رأى القوميون فيها نموذجاً يُحتذى لإقامة
الدول على أساس قومي، يقول ساطع الحصري: (إن هذه الدولة الجديدة اصطدمت في بادئ الأمر بمشاكل داخلية كبيرة؛ لأن اختلاف التربية والتقاليد
الإدارية والثقافية التي سادت المقاطعات المذكورة منذ قررن عديدة - انضم إلى
اختلاف الثقافة فأوجد نزعات إقليمية عرضت كيان الدولة إلى مخاطر جدية.
إن الكروات والسلوفن كانوا أرقى من الصرب من وجهة العلم والثقافة. ولكن
الصرب كانوا أرقى من هؤلاء من حيث التشكيلات الحكومية والتنظيمات العسكرية.
فكان من الطبيعي أن يحدث تنافس وتنازع بين هذين العنصرين لتولّي الحكم
وكان من الطبيعي أن تتعرض الدولة التي تتكون منهما لأزمات خطيرة، ولكن
الشعور بالوحدة القومية كان كفيلاً بالتغلب على هذه المشاكل كلها وبالقضاء على
النزعات الإقليمية بأجمعها.
وهذا ما حدث فعلاً: بعد زوال أزمات الحكم الأولى، وتلاشي نزعات
الإقليمية المختلفة، رأى القوم أن يتركوا الاسم المركب الأول، وأن يسموا الدولة
باسم مختصر يكون أكثر دلالة على الوحدة القومية من الاسم الأول واختاروا لذلك
اسم (يوغوسلافيا) بالنسبة إلى اللغة التي تربط جميع العناصر بعضها ببعض،
والدولة اليوغوسلافية التي تأسست بهذه الصورة وبعد اجتياز مرحلة الولادة العسيرة
أصبحت متحدة ومتماسكة بكل معنى الكلمة.
ومن المعلوم أن شدة هذا التماسك والاتحاد بهرت الأنظار وأدهشت الأذهان
خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها) . [1] ...
ونحن نرى هذا التحليل التاريخي الاجتماعي لقيام يوغوسلافيا قاصراً ولا
يجيب على أسئلة تنبع من سياقه، وهو تحليل أُحادي وليس شاملاً، وقد صِيغ بلغة
تبشيرية [2] فهو يشير إلى اختلاف المذاهب، وهذا يعني الاختلاف بين الصرب
الأرثوذكس وبين الكروات والسلوفين الكاثوليك، لكن ماذا عن الإسلام الموجود في
يوغوسلافيا؟
وهو يقول: (ولكن الشعور بالوحدة القومية كان كفيلاً بالتغلب على هذه المشاكل كلها، وبالقضاء على النزعات الإقليمية بأجمعها) . هل صحيح أن المشاكل كلها والنزعات الإقليمية بأجمعها قد زالت من وغوسلافيا بعد أن سُميت بهذا الاسم المختصر؟ !
وكذلك القول: إن الدولة اليوغوسلافية (أصبحت متحدة ومتماسكة بكل معنى
الكلمة. ومن المعلوم أن شدة هذا التماسك والاتحاد بهرت الأنظار وأدهشت الأذهان
خلال الحرب العالمية الثانية وبعدها) .
فادعاء التماسك والاتحاد بكل معنى الكلمة يأتي الواقع العملي اليوم ليكشف ما
فيه من المجازفة والإصرار على الأوهام، فحال يوغوسلافيا لا تنبّئ بذلك بل
بعكسه (بكل معنى الكلمة) وتكاد الأزمة الحالية تنجلي عن استحالة أن تعود أجزاء
يوغوسلافيا إلى الالتئام ثانية.
وكذلك الاعتماد على ما حدث في يوغوسلافيا خلال الحرب العالمية الثانية وما
بعدها كدليل على ثبات هذا الاتحاد.
فقد يتعاون الأعداء وأصحاب المصالح المتعارضة من أجل دفع عدو آخر،
وهذا ما حدث عند الاحتلال النازي والفاشي ليوغوسلافيا، تناسى هؤلاء
اليوغوسلاف إِحَنهم الداخلية المتأصلة لإخراج الغزاة من أرضهم، لأنهم لا يمكنهم
ذلك إلا بهذه الطريقة، وهذا يذكّرنا بحالة التحالف بين دول مختلفة لإخراج
العراقيين من الكويت، فلا أحد يدَّعي أن قوة ذلك التحالف هي نتيجة لوجود وحدة
قومية بين أعضائه في الماضي أو في الحاضر أو في المستقبل. هذا من جهة،
ومن جهة أخرى فإن وجود شخصية مهيمنة مثل (تيتو) قد غطى على هذه المشكلة. وإن ظن الكثير من المخدوعين وأصحاب الأفكار الآنية أنه حلها إلى الأبد، وهذا
الأمر له دلالة ثانية، فالكبت والقهر لا يقتلع المشاكل، وإن بدت غائبة عن الأنظار
بل يجمدها أو يجعلها تتوارى تحت السطح مثل الهوام وخشاش الأرض في مرحلة
البيات الشتوي، حتى إذا جاء (سعد الخبايا) وزالت العوائق خرجت الخبايا من
الأرض لتتمتع بالدفء وتحيا حياتها الطبيعية من جديد.
إن الهدوء الذي كان يخيّم على يوغوسلافيا بعد الحرب العالمية الثانية،
وخلال الحكم الشيوعي في عهد تيتو لم يكن نهاية المطاف، وإنما هو بَكَمٌ عارض
وصمت مصطنع فرضته عوامل وقتية، وقد زال بزوالها.