الخيرية
بين الحسبة والضبط الإداري
أحمد بن صالح السيف
تعد ولاية الحسبة في الدولة الإسلامية الأداة التي من خلالها تحقق دورها
المنشود لتأدية رسالتها إلى البشرية جميعاً.
[وكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ ويَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ
شَهِيداً] [البقرة: 142] .
وهي القناة المؤدية إلى امتثال الغرض المحتم عليها، وتحصيل الخيرية
والقيمة المرجوة منها، والتي أخرجت لتكون في الطليعة بين الأمم، [كُنتُمْ خَيْرَ
أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ]
[آل عمران: 110] .
فالحسبة قد وردت بعدة تعاريف ومفاهيم من قبل العلماء المتقدمين والمتأخرين، الجامع بينها:
(أمرٌ بالمعروف إذا ظهر تركه، ونهيٌ عن المنكر إذا ظهر فعله، يقوم به والٍ مختص من قبل الدولة) [1] .
وبهذا فالقائم بأمر الله لابد له من سلطة، يأمر وينهى من خلالها (سلطة تقوم
على الدعوة إلى الخير والنهي عن الشر، سلطة تجمع وحداتها وترتبط بحبل الله
وحبل الأخوة في الله، سلطة تقوم على هاتين الركيزتين مجتمعتين لتحقيق منهج الله
في حياة البشر، وتحقيق هذا المنهج يقتضي (دعوة) إلى الخير يعرف منها الناس
حقيقة هذا المنهج، وتقتضي سلطة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، قائمة على
التعاون بين أفراد الأمة والمسؤولين ولا يتخلف أحد عن واجبه؛ لأن ذلك أشد نفعاً
وتأثيراً، إذ أنه لا مكلف إلا ويجب عليه هذه الشعيرة، إما بيده أو لسانه أو بقلبه،
وعلى كل أحد دفع الضرر عن نفسه.
ولما كان هذا الأمر الملقى على عاتق الأمة لتحقيق خيرتها وأداء دورها ليس
بالأمر اليسير، لكونه صدعاً بالحق في وجوه بعض النفوس المريضة في المجتمع
الباغية إشباع شهواتها ونزواتها وحباً منها في أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا،
مما لا يجدي معهم الحكمة والموعظة الحسنة، ولا ينفع معهم إلا الردع والقسر كما
قال عثمان بن عفان -رضي الله عنه-: (إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن) ، وروي عن عمر -رضي الله عنه- مثله: (واعلم أنه لا قيمة لحق لا نفاذ له) [2] ، لذا وجدها أعداء هذه الأمة فرصة سانحة لإقصاء الأمر الإلهي بدعوى الحضارة
والرقي إلى مصاف الدول المتقدمة - بزعمهم -، وجعلوا اللحوق بركبهم ضداً لا
يجتمع مع الشريعة الإسلامية، أي: النداء إلى علمنة هذا التشريع السماوي، حيث
إنه بزعمهم جامد لا يتحرك ولا يواكب التطور، وها هو (كرومر) ينفث في روع
المستغربين: (إن الإسلام ناجح كعقيدة ودين، ولكنَّه فشل كنظام اجتماعي) [3] .
فلابد من فصل الدين عن الدولة والحكم بغير ما أنزل الله في مثل أغراض
الحسبة، وتقديم الدين عقيدة ونسك بدون سلوك دنيوي.
فما كان من هذه النفوس المريضة إلا أن انساقت خلف هذه الشعارات
والمقولات البراقة، واستبدلت الذي هو أدنى بالذي هو خير، باسم النهوض بالأمة
والتقدم بها. [أَفَحُكْمَ الجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ ومَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ]
[المائدة: 50] ، ليعيشوا بعد هذا في ضعف مزر وفرقة، واستعباد وسيطرة من
الأعداء عسكرياً وسياسياً وفكرياً، فجاء إقصاء أعداء الله لشرعه بصورة مهذبة من
خلال ما ينعتونه بالضبط الإداري بديلاً عن الأمر الإلهي: [ولْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ
يَدْعُونَ إلَى الخَيْرِ ويَأْمُرُونَ بِالمَعْرُوفِ ويَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ] آل عمران: 104 [.
سرقوه من زادنا الثرّ ثم شوهوه ودسوا فيه سمهم الزعاف، وما أدراك ما
الضبط المزعوم في نظرهم، وهل له من اسمه نصيب؟ .
فالضبط الإداري جاء عند القانونيين بعدة تعاريف، الجامع منها: أنه (حق
الإدارة في أن تفرض على الأفراد قيوداً تحد بها من حرياتهم، بقصد حماية النظام
العام بالعناصر الثلاثة: الأمن العام، والصحة العامة، والسكينة العامة) ] 4 [.
ويمارس هذا الضبط التشريعي من خلال قوانين ولوائح وقرارات تستهدف
بزعمهم حماية النظام العام وصيانة استقراره وتقدمه.
فالسلطة التشريعية واسعة النطاق، حيث يجوز لها أن تنظم أي نشاط تقدر
أن من المصلحة تنظيمه بواسطة الضبط التشريعي، وأن تسند القيام به إلى أي جهة
تراها] 5 [.
وذلك بتشريع بشري ناقص نابع من الهوى والميل لتحقيق مبتغاهم وإشباع
نزواتهم، ولم يعلموا أن هذا تمرد على حق الله تعالى في التشريع، فهو المشرع
الأول العالم بالخير بما يصلح أحوالهم.] إنِ الحُكْمُ إلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إلاَّ إيَّاهُ
ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [] يوسف: 40 [.
وإذا استعرضنا واقعهم لنرى هذا الادعاء المزعوم من أن تشريع هذا الضبط
بصورته الطاغوتية يكفل المحافظة على الآداب والسكينة والأمن والاستقرار. فنجده
الانفلاتَ الأخلاقي ظاهراً للعيان، وانتشارَ الجريمة بشتى صورها، وشيوعَ القمع
الناجم عن ممارسات الإرهاب.
وهكذا عندما استجابت الأمة لتلك الدعاوى الملفقة وأصابها ما أصابها من
هزيمة نفسية ونكوص على عقبيها، ها هي اليوم تعايش ما يعايشه أعداؤها من
نتيجة للحكم بغير ما أنزل الله من واقع مزر متفكك وفقد للخيرية والتمكين] سُنَّةَ
اللَّهِ فِي الَذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلُ ولَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً [] الأحزاب: 62 [.
فالأمر من جلله حدى بالعلامة ابن خلدون إلى عقد فصلٍ في مقدمته: (فصل
في أن العرب لا يحصل لهم مُلك إلا بصبغة دينية من نبوة أو ولاية أو أثر عظيم
من الدين على الجملة) .] 6 [