مجله البيان (صفحة 92)

أدب وتاريخ

معالم حول كتابة التاريخ الإسلامي

(?)

النقد التاريخي

عند ابن تيمية وابن خلدون

محمد العبدة

لا شك أن من المهمات الرئيسية للمؤرخ بعد الاطلاع على المرويات

التاريخية، تمحيص الخبر وبيان صحته أو زيفه، وذلك بعد عرضه على منهج واضح محدد المعالم يرتضيه هو لنفسه، ذلك أن الخبر بطبيعته يتطرق إليه الوهم والغلط أو الكذب أحياناً، وقد تكلم ابن خلدون في مقدمته عن الأسباب التي تقتضي الكذب في الأخبار فذكر منها:

1- التشيعات للآراء والمذاهب، لأن النفس إذا كانت على حال الاعتدال في

قبول الخبر أعطته حقه من التمحيص والنظر حتى تتبين صدقه من كذبه.

2 - الثقة بالناقلين. وتمحيص ذلك يرجع إلى التعديل والتجريح.

3 - الجهل بالقوانين التي تخضع لها الظواهر الطبيعية.

4 - الجهل بطباع العمران [1] .

والمقصود بالظواهر ظواهر علم الفلك والكيمياء والطبيعة والحيوان والنبات.. وقد انتقد ابن خلدون المؤرخين الذين ليس عندهم إلمام بهذه العلوم، فيقبلون

الأخبار التي تتناقض تناقضاً تاماً مع القوانين العلمية كالخبر الذي ذكره المسعودي

عن بناء الإسكندرية [2] .

والمقصود بطبائع العمران الظواهر الاجتماعية، كالعادات، والتقاليد،

والغنى، والفقر، والعلم، والجهل، وكثرة السكان، أو قلتهم، وطبيعة الدول ...

إلخ، ضمن كل هذه العوامل هل من الممكن وقوع الحادثة أم لا؟ وسنرى كيف

يطبق ابن خلدون هذا المنهج في نقده لبعض الأخبار، وكيف يعتبر أن العلم بطبيعة

العمران هو أهم سلاح يوجه للخبر التاريخي: وهو أحسن الوجوه وأوثقها في

تمحيص الأخبار وتمييز صدقها من كذبها، ولا يرجع إلى تعديل الرواة حتى يعلم

أن ذلك الخبر في نفسه ممكن أو ممتنع، وأما إذا كان مستحيلاً فلا فائدة للنظر في

التعديل والتجريح) [3] .

وهذا الكلام وإن كان مقبولاً بشكل عام، ولكنه يحتاج إلى شيء من التحفظ؛

فهناك روايات صحيحة ينقلها ثقاة عدول يعلمون ما ينقلون عن أمور خارقة للعادة،

وبالشروط المطلوبة لوقوع الكرامة فنحن نصدقها، ولا نقبل من أحد أن يقول: هذه

لا يمكن وقوعها، كحادثة العلاء بن الحضرمي - رضي الله عنه - في فتح إقليم

فارس زمن عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وإن كان الأصل هو الأخذ

بالأسباب وجريان الأمور على سنن كونية لا تتخلف مع أن الخبر التاريخي يختلف

من بعض الوجوه عن نقل حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن يبقى

أن منهج الجرح والتعديل الذي قام به أهل الحديث هو من أعظم العلوم التي برز

فيها المسلمون، ونقدوا فيها الروايات التي تتعلق بحديث رسول الله - صلى الله

عليه وسلم - واتخذوا في ذلك منهجاً صارماً للغاية، ذباً عن السنة أن يدخل فيها ما

ليس منها، وإن تطبيق هذا المنهج على الروايات التاريخية - إن أمكن ذلك - لهو

في غاية الأهمية، ولكن هناك صعوبات تعترض هذا التطبيق، منها:

1 - لم تؤلف الكتب في جرح وتعديل رواة التاريخ كما وقع لرواة حديث

رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولا شك أن الاهتمام بالسنة هو الأولى

والمقدم، والمقصود: معظم الروايات التاريخية، وإلا فهناك رواة للتاريخ يمكن

معرفة حالهم من كتب الجرح والتعديل.

2 -إن البحث والتفتيش عن الرواة انتهى في القرون الأولى بعد أن اطمأن

علماء الحديث إلى حفظ سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ولكن التاريخ

حركة دائبة، فكيف العمل في الأحداث التي جاءت من بعد؟

3 - تتدخل عوامل كثيرة في الحدث التاريخي غير الرواية، مما يساعد على

التأكد أو الشك في الخبر، كالآثار التاريخية والعوامل الجغرافية.. إلخ.

لهذه الأسباب ولغيرها لابد من الجمع بين منهج أهل الحديث، وما ذكره ابن

خلدون من عدم مخالفة الخبر لسنن الاجتماع، أو عدم مخالفته للعقل الصريح، مع

الاستفادة أيضاً من مناهج النقد الحديثة عند دارسي التاريخ، مما يتفق والأصول

العامة للإسلام.

وسنعرض لنموذجين من تحليل الحديث التاريخي، ونقد الخبر، وعرضه

على منهج قواعد علم الاجتماع.

أولا: ناقش ابن تيميه الذين يطعنون في خلافة أبي بكر وعمر وعثمان -

رضى الله عنهم - ويقولون: إن المسلمين خالفوا الوصية التي يزعمون أن رسول

الله - صلى الله عليه وسلم - أوصى بها لعلي بن أبي طالب -رضى الله عنه-.

قال:

(نقدر أن الأخبار المتنازع فيها لم تكن، فنرجع إلى ما هو معلوم بالتواتر،

أو بالعقل والعادات، أو ما دلت عليه النصوص المتفق عليها فنقول:

من المتواتر أن أبا بكر لم يطلب الخلافة برغبة ولا برهبة، فلا بذل فيها مالاً

ولا شهر عليها سيفاً، ولا كانت له عشيرة ضخمة، بل ولا قال: بايعوني، ومن

تخلف عن بيعته لم يؤذه، ولا أكرهه عليها، كسعد بن عبادة، فلما جاءه اليقين

خرج منها أزهد مما دخل فيها، لم يستأثر منها بشيء ولا آثر بها قرابة، بل نظر

إلى أفضلهم في نفسه (عمر بن الخطاب) فولاه عليهم فأطاعوه ففتح الأمصار، وقهر

الكفار، وبسط العدل، حتى خرج منها شهيداً لم يتلوث لهم بمال، ولا ولى أحداً من

أقاربه ولاية، هذا أمر يعرفه من يعرف وينصف، ثم بايعوا عثمان كلهم طوعاً

منهم، فسار وبنى على أمر قد استقر قبله بسكينة وحلم وكرم ولين، ولكن لم تكن

فيه قوة عمر، ولا سياسته التي بهرت العقول، فطمع فيه الناس بعض الطمع،

وتوسعوا في الدنيا، وكثرت عليهم الأموال، وتولد من رغبة بعض الناس في الدنيا

وضعف خوفهم من الله تعالى، ومن ضعفه هو بالنسبة إلى كمال الذين سبقوه، ما

استحكم به الشر، وحرك الفتنة، حتى قتل مظلوماً. فتولى عليٌّ -رضى الله عنه-

والفتنة قائمة ولم تصف قلوب كثير منهم، ولا أمكنه هو قهرهم حتى يطيعوه، ولا

اقتضى رأيه الكف عن القتال حتى ينظر ما يؤول إليه أمره، كما أشار عليه ولده

الحسن، ثم افترقت عليه الخوارج، وقاتلوه - قاتلهم الله -فكان آخر الخلفاء

الراشدين الذين ولايتهم خلافة النبوة.

طريق آخر: وهو أن يقال: دواعي المسلمين بعد موت نبيهم كانت

متوجهة إلى اتباع الحق قطعاً، وليس لهم ما يصرفهم عن الحق، وهم قادرون

على ذلك، وإذا حصل الداعي إلى الحق وانتفى الصارف مع القدرة وجب الفعل. فعلم أن المسلمين خير القرون بايعوا أبا بكر تديناً لا لرغبة ولا لرهبة، فلو فعلوا بموجب الطبع لقدموا علياً أو العباس، لشرف بني هاشم، ولما قيل لأبي قحافة: إن ابنك ولي الخلافة، قال: ورضيت بنو أمية وبنو هاشم وبنو مخزوم؛ قالوا: نعم، فعجب، وقال: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» .

طريق آخر: تواتر أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: «خير هذه

الأمة قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم» فخير الأمم، بلا نزاع، القرن

الأول، ومن تأمل حال المسلمين في القرن الثاني بالنسبة إلى الأول، علم تباين ما

بينهما، فإن كان القرن الأول جحد حق الإمام المنصوص عليه، ومنعوا عادلاً عالماً

عناداً ودفعاً للحق، فهؤلاء شر الخلق وهذه الأمة شر الأمم أخرجت للناس.

طريق آخر: عرف بالتواتر الذي لا يخفى أن أبا بكر وعمر وعثمان كان لهم

بالنبي اختصاص عظيم وخلطة وصحبة ومصاهرة، وما عرف عنه أنه كان يذمهم، فإما أن يكونوا على الاستقامة ظاهراً وباطناً معه وبعده، أو لا. فالأول هو

المطلوب، والثاني إما أنه علم وداهنهم، أو لم يعلم، وأيهما قدر فهو من أعظم

القدح في الرسول -عليه السلام-. وإن كانوا انحرفوا بعد الاستقامة فهذا خذلان من

الله لنبيه في خواص أمته، ومن وُعد أنه يظهر دينه على الأديان كيف يكون أكابر

خواصه مرتدة؟ ! هذا من أعظم القدح في الرسول والطعن فيه) [4]

وبنفس هذه الروح من مناقشة الروايات يرد ابن تيميه على من يقول: إن

عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كان سيولي بعده سالماً مولى أبي حذيفة لو كان

حياً، ويترك تولية أحد من أهل الشورى يقول:

(فكيف يظن بعمر أنه يولي مولى، بل من الممكن أنه كان يوليه ولاية

جزئية، أو يستشيره فيمن يولي ونحو ذلك من الأمور التي يصلح لها سالم مولى

أبي حذيفة، فإن سالماً كان من خيار الصحابة) [5] .

ثانياً - طبق ابن خلدون منهجه في نقد الخبر وهو: هل يثبت هذا الخبر أولاً

إذا عرض على قواعد علم الاجتماع، أو أنه يتناقض مع طبيعة العصر وطبيعة

العلاقات الاجتماعية يومها؛ وذكر أمثلة على منافاة الأخبار لطبيعة قواعد علم

الاجتماع نذكر منها:

أ- قصة العباسة أخت الرشيد قال: (ومن الحكايات المدخولة للمؤرخين ما

ينقلونه كافة عن سبب نكبة الرشيد للبرامكة من قصة العباسة أخته مع جعفر بن

يحيى بن خالد مولاه، وأنه لِكَلَفه [6] بمكانهما أذن لهما في عقد النكاح دون الخلوة

حرصاً على اجتماعهما في مجلسه، وأن العباسة تحيلت على التماس الخلوة،

فحملت من جعفر ووشي بذلك للرشيد فاستغضب ...

ويتابع ابن خلدون نقده لهذا الخبر: (وهيهات ذلك من منصب العباسة في

دينها، وأبويها، وجلالها، وأنها بنت عبد الله بن عباس ليس بينها وبينه إلا أربع

رجال هم أشراف الدين وعظماء الملة من بعده، والعباسة بنت محمد المهدي بن

أبي جعفر المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس ترجمان القرآن، ابنة

خليفة، أخت خليفة، محفوفة بالملك العزيز، قريبة عهد ببداوة العروبية وسذاجة [7] ... الدين البعيدة عن عوائد الترف ومراتع الفواحش، وكيف يسوغ من الرشيد أن

يصهر إلى موالي الأعاجم على همته وعظم آبائه؛ وإنما نكب البرامكة ما كان من

استبدادهم على الدولة، واستنكاف الرشيد عن الحَجْر والأنفة..) [8] .

ب-كثيراً ما يقع المؤرخون في الوهم والغلط عندما يكون الخبر متعلقاً بالأرقام

والإحصائيات، كإحصاء الجيوش، أو أموال الخراج، وبعض الناس عندهم ولع

بتضخيم الأرقام، فيذكرون أشياء تصادم العقل والبديهيات، وتصادم قانون النمو

السكاني، وقد انتقد ابن خلدون المؤرخين قبله لوقوعهم في هذه الأغلاط، واعتمد

في نقده، على علم الإحصاء، وتكاثر السكان ضمن البيئة الجغرافية التي يعيشون

فيها. يقول:

(وهذا كما نقل المسعودي وكثير من المؤرخين في جيوش بني إسرائيل،

وأن موسى -عليه السلام- أحصاهم في التيه بعد أن أجاز من يطيق حمل السلاح

خاصة من ابن عشرين فما فوقها، فكانوا ستمائة ألف أو يزيدون) .

يعلق ابن خلدون على هذه الرواية: (ويذهل في ذلك عن تقدير مصر والشام

واتساعهما لمثل هذا العدد من الجيوش، ولقد كان ملك الفرس ودولتهم أعظم من

ملك بني إسرائيل، ومع ذلك لم تبلغ جيوش الفرس قط مثل هذا العدد ولا قريباً منه، وأعظم ما كانت جموعهم بالقادسية مائة وعشرون ألفاً كلهم متبوع، وكانوا في

أتباعهم أكثر من مائتي ألف، وعن عائشة والزهري أن جموع رستم التي زحف بها

لسعد بالقادسية إنما كانوا ستين ألفا.

وأيضاً، فالذي بين موسى وإسرائيل (يعقوب عليه السلام) إنما هو أربعة آباء

على ما ذكره المحققون، وكان مقامهم بمصر إلى أن خرجوا مع موسى -عليه

السلام- إلى التيه مائتين وعشرين سنة، ويبعد أن يتشعب النسل في أربعة أجيال

إلى مثل هذا العدد « [9] .

لا شك أنها نظرة متقدمة جداً من ابن خلدون وهي اكتشافه لقانون التكاثر

والنمو السكاني.

لقد كان الهدف الرئيسي عند ابن خلدون من كتابة المقدمة هو تخليص

الروايات التاريخية من الخطأ والكذب، ووضع القوانين التي تساعد المؤرخ على

عدم الوقوع في الأخطاء، ولذلك تكلم عن العمران البشري والقوانين التي تحكم

سكونه وحركته. ولكنه فوجئ بأنه أتى بعلم جديد هو بحد ذاته هدف ثمين.

ولكن رغم أهمية ما جاء به ابن خلدون لابد من التأكيد على أن منهج أهل

الحديث في نقد الخبر هو من أعظم المناهج، وإذا استطعنا الجمع بين هذا المنهج

ومنهج النقد الاجتماعي والعقلي عند ابن خلدون وغيره من دارسي التاريخ -مع

بعض التحفظات على هذه المناهج- فسوف نؤدي بعملنا هذا خدمة جليلة للتاريخ

الإسلامي.

طور بواسطة نورين ميديا © 2015